نجيب محفوظ
ملتبساً نصوصه السردية الأخيرة
محمد علي شمس الدين
نصب تذكاري لنجيب محفوظ في القاهرةمنذ العام 1994، وتحديداً من تاريخ يوم ما من أيام تشرين الأول 1994، حصل انعطاف كبير في حياة ونتاج الروائي الكبير نجيب محفوظ، وقد انعكس وضعه الجَسَدي على نتاجه انعكاساً ايجابياً، فكتب على امتداد السنوات التالية عملين هما من أجمل ما كتب في حياته الإبداعية، «أصداء السيرة الذاتية» و «أحلام فترة النقاهة»... ولم يكفّ عن كتابة الأحلام، إلا حين اضطرّه عارض صحي للدخول الى المستشفى في الشهر الفائت (تموز، يوليو 2006). آخر حلم كتبه، كما نشر في «لوفيارو ماغازين» – التي كان يكتب فيها بين حينٍ وآخر – هو التالي:
«رأيت ناصراً في الحلم وهو يعطيني رغيف خبز من نوع خبز مصر العليا وهو يمتاز بأنه قاسٍ ومطبوخ على ضوء الشمس، فهو قد أعطاني إياه وطلب مني أن آكله».
يضيف محفوظ في المجلة نفسها: «الحلم حدود عالمي».
وهذا الحلم هو حلم سياسي وطني بامتياز... لكنّ رقعة أحلام نجيب محفوظ هي أكثر اتساعاً وأبعد أغواراً، بعضها يطلع من النوم والرؤيا، والبعض الآخر هو أحلام يقظة.
وقد اضطرت اصابة نجيب محفوظ ببعض الإعاقة الجسديّة، من شلل جزئي في عصب اليد اليمنى، وضعف بالغ في النظر، بنتيجة ما تعرض له في تشرين الأول (أكتوبر) 1994 من طعنات غدرٍ في عنقه من قبل متشددين جاهلين من الجماعة الإسلامية، اضافة الى وضعه الصحي الناجم عن مرض السكري الذي يعاني منه من مدة طويلة... الى اللجوء للذاكرة من جهة وللأحلام من جهة ثانية، ليملي شحنته الإبداعية على من يكتبها له على الورق. هكذا جاءت شيخوخة نجيب محفوظ مصحوبة بإعاقات جسدية وصحية، لكنها خصبة ومنتجة على صعيد الكتابة. أسمح لنفسي بأن أعتبر عملية الأخيرين، وهما أبرز ما كتبه في الشيخوخة: «أصداء السيرة الذاتية» و «أحلام فترة النقاهة»، بمثابة ولادة جديدة لهذا الروائي العظيم، صاحب المراحل والمفاجآت... لقد تولدت لديه رؤيا روائيّة جديدة، لعلها تطوير خصب ومتنوّع لمرحلة كتاب «المرايا»، وتتصف بصفتين أساسيتين هما: الشعرية المستندة الى الرؤيا والأحلام من جهة، والتركيز أو التكثيف المضغوط حتى حدود الانفجار لعنصري الحَدَث واللغة... فنجيب محفوظ الثاني، هو بالعربية، شاعر الرواية الأكبر، وروائي الشعر المفاجئ، ولا يشقّ له في هاتين السِمَتين غبار.
يلجأ الكاتب في عمليه المذكورين: السيرة (وهي الأهم والأعمق) والأحلام، الى خيمياء غريبة تدور في رأسه، وتعصف في تاريخه الذاتي والعام، ووجدانه... قبل أن تستوعبها الكلمات. تتقاطع في «أصداء السيرة الذاتية» شخصيّة نجيب محفوظ السِيَريّة (سيرته الذاتية) مع ذاته الثقافيّة المتخيّلة، أي تتقاطع مجمل إبداعاته الروائية الواقعية والمتخيّلة (كتب أكثر من خمسين رواية ومجموعات قصصية كثيرة إضافةً الى النصوص المسرحيّة)، مع نتف من سيرة حياته من الصِبا حتى الشيخوخة. فنحن هنا لسنا أمام عمل روائي صرف، ولسنا أمام مذكرات وسرد لوقائع سيرة حياتية، بل أمام عمل يبدأ من أرض الذاكرة ليصعد في فضاء التأمّل والثقافة.
وأول المفارقات ما تكشفه الأصداء من حقائق للذات الإبداعية لنجيب محفوظ، هي على عكس ما اعترف به أو أشيع عنه من أنه كائن اجتماعي محافظ ومنضبط، وينطوي على نفسيّة «موظّف» وسلوك يداري السلطة الحاكمة، أو القوى العالمية المسيطرة ولا يدعو لمناطحتها... حتى لكأنه يتلافى «الثورة» بمعناها السياسي والاجتماعي المباشر.
في «الأصداء» ينكشف لنا نجيب محفوظ آخر ومغاير. يكتب في إحدى نبذ السيرة: «دعوت للثورة وأنا دون السابعة. ذهبت ذات صباح الى مدرستي الأولية محروساً بالخادمة. سرت كمن يساق الى سجن. بيدي كراسة وفي عيني كآبة وفي قلبي حنين للفوضى...» فهو منذ السابعة من عمره، مشغوف بالثورة وداعية لها وفي قلبه حنين الفوضى (فأين الانضباط الوظيفي؟). ويكتب في النبذة الثانية «... واندلعت في باطني ثورة مباغتة، متسمة بالعنف متعطشة للجنون»... وحتى لا ننساق وراء إغراء الكلمات وخداعها، علينا أن ندرك خاتمة كل نبذة من النبذتين آنفتي الذكر... فالثورة التي دعا اليها محفوظ وهو دون السابعة كانت متعلقة بتظاهرات الطلاّب وإقفال المدارس بنتيجة ذلك. لذا كتب: «ومن صميم قلبي دعوت الله أن تدوم الثورة الى الأبد». كذلك اندلاع الثورة المباغتة المتسمة بالعنف المتعطشة للجنون، في باطنه... فقد اندلعت «أمام الجميلة ذات الضفيرة الطويلة السوداء».
نحن هنا أمام مبدع ملتبس، بل متعدد... وينبغي الحفر على طبقات ذاته الإبداعية.
يقول في الأصداء: «سألت الشيخ عبد ربه التائه: متى يصلح حال البلد؟ فأجاب: عندما يؤمن أهلها بأنّ عاقبة الجبن أوخمُ من عاقبة السلامة». وسوف نعثر في شخصيّة أصداء السيرة الذاتية وهي شخصيّة «عبد ربه التائه» 0 ولعلها الكاتب نفسه – على جميع الأشخاص الذين تراكموا أو تعاقبوا على نجيب محفوظ على امتداد مراحل حياته، من لدن مغادرته الطفولة، ودورانه في البحث عنها، حتى حدود الموت ومشارف القبر. ونجد أنفسنا أمام متأمّل وروائي بعيد الأغوار، خصب، متعدّد وصاحب أقنعة.
فهو يمشي، كما يقول «تتبعه نداءات الحب والموت»، ويتقلّب بين الذاكرة والنسيان حيث «قوّة الذاكرة تتجلّى في التذكّر كما تتجلّى في النسيان». ومحفوظ صاحب مقاطع وسِيَر عذبة في العشق وتمجيد الحياة، تقرّبه من الشعر الصافي. يقول في «خطبة الفجر»: «إذا راودك خاطر اكتئاب فعالجه بالحبَ والنغم» ويقول: «كابدت من الشوق ما جعل حياتي لهفة مكنونة في حنين».
ويظهر على نجيب محفوظ، من خلال عبد ربه التائه مسّ من الانجذاب الصوفي لم يكن موجوداً أو واضحاً في أعماله الروائية والقصصية السابقة. يظهر لنا، وهو يجري وراء قطار القناطر الخيريّة، وكأنه مشدود وراء قطار آخر ونداء يقول له «اترك كل شيءٍ واتبعني»... ولؤلؤته التي يراها في المنام، تخصّه وحده دون الناس. متعته كمتعة لاعب البليارد مع نفسه من دون لاعب يواجهه أو جمهور يلتفّ حوله «المتعة أن ألعب وحدي...» كما يقول.
ولا نحسبنَّ الشيخ نجيب محفوظ مستسلماً لسكينة الإيمان، وهدوء العقل وطمأنينة الشيخوخة... إنه أشدّ تركيباً وأجمل خلطةً وجودية من ذلك. انه يرى ويقول بضرورة الفوضى... يسوق في نبذة من السيرة خبراً عن رجل له ثلاثة أبناء عقد النيّة على السفر للحجّ، فاستدعاهم وسألهم واحداً واحداً:
- ماذا تقولون بعد الذي كان؟
أجاب الأكبر: لا أمل بغير القانون
وأجاب الأوسط: لا حياة بغير الحب
وأجاب الأصغر: العدل أساس القانون والحبّ
فابتسم الأب وقال: لا بدّ من شيء من الفوضى كي يفيق الغافل من غفلته. ونجيب محفوظ، صاحب أصداء السيرة الذاتية، هو عينه تاجر الأحلام الأكبر، في «أحلام فترة النقاهة»... ولعله مهّد لهذه الأحلام حين كتب في نهاية الأصداء «حذارِ... فإنني لم أجد تجارةً هي أربحُ من بيع الأحلام».
فمادّة «أحلام فترة النقاهة» مادّة حلميّة محض... مع عدم التخلّي عن الحدث الحكائي أو الروائي والشخصيات الروائية. فثمّة إذن، في أصداء السيرة كما في الأحلام، عناصر سرد روائي بعدّته الأساسية، من خلال انخطافات الشعر وأحلامه واختزاله التعبيري.
يقدّم لنا نجيب محفوظ، على الرغم من شيخوخته وضعفه، في «الأحلام» دليلاً اضافياً على «فحولة أدبية» (كما تقول سناء البيسي في مقدمتها للأحلام). إنه يشرخ في الأرض البكر. فبين المادّة الحلمية والفوضى الخلاّقة تتشكل نصوص أحلام فترة النقاهة بآلية سريالية عجيبة. فنحن أمام شريط من الأحلام ممتع مختصر مفاجئ يقترب فيه محفوظ من ساحة القصيدة، لجهة الكثافة والغرابة والمخيّلة. والأحلام ليست مجنونة وإن كانت غرائبيّة، وهي مرتّبة بضبط روائي يغوص في اللاوعي، ولكنه لا يغادر الوعي أو يقطع معه... ما يجعل بعضها قريباً من أحلام اليقظة... مع مقدار من الشطح يقل أو يزيد بين حلمٍ وآخر... ما يضفي على هذه الكتابة المفاجئة، شيئاً من الفنتازيا. يقول في حلم 64: «من شدّة الرعب تسمّرت قدماي في الأرض، فعلى بعد ذراعٍ منّي شبّت ثلاثة كلابٍ ضخمة، متوحشة، تريد أن تنقضّ عليّ لتفتُكَ بي لولا أن قبَضَتْ على أذيالها امرأة باستماتة»... وإلى اليمين وقعت كلبة في ريعان الشباب لآية في غزارة الشعر وبياضه ونعومته، وكانت تشاهد ما يحدث في قلق تجلّى في اهتزازات ذيلها المقصوص. وارتفع نباح الكلاب الثلاثة واشتعلت في أعينها الرغبة المتأججة في الفتك بي، ولما تعذّر عليها الوصول إليّ استدارت فجأةً ووثبت على المرأة. وعند ذلك اقتلع الرعب قلبي وارتمت عليّ الكلاب... أما الكلبة الجميلة فتطلّعت لي مدّة، وترددت لحظة عابرة، ثم ألقت بنفسها في المعركة دون مبالاةٍ بالعواقب». الأماكن والأزمنة في أحلام محفوظ، والحوادث والأشخاص تسبح في سَديم غرائبي متخيّل. نكون معه في حديقة فنغدو في شارع، ونبدأ من منزل بالعباسية (الحي السكني الذي يقيم فيه الكاتب في القاهرة) فينقلب المكان الى فيلاّ في موقع آخر. ويلتقي في الأحلام، الأحياء والأموات وتتبادل الأزمنة الأدوار فلا حدود مرسومة بين الصبا والكهولة، وبين الماضي والحاضر والمستقبل، وبين الواقعي والخيالي.
وأحلام محفوظ غالباً ما تلامس شؤون حياة عاشها الرجل، انما بالرمز والإيماء. والشيخ الجليل غالباً ما يحلم بالنساء العاريات، ولكن نادراً ما يصل اليهنّ بوصلٍ مريح. هو يحلم أيضاً بالحكومة والوظيفة والمنزل والأم والأخوات وبأصدقائه من الحرافيش... وربما عثرنا أحياناً على أحلام عبقرية وأحلام ساخرة وأحلام غرائبية الى جانب الأحلام العادية... وهكذا يتابع نجيب محفوظ بالكتابة، الواقع بالحلم، كما يمكن أن يتابع أيضاً، بالكتابة الإبداعية نفسها، الحياة بالموت».
ملتبساً نصوصه السردية الأخيرة
محمد علي شمس الدين
نصب تذكاري لنجيب محفوظ في القاهرةمنذ العام 1994، وتحديداً من تاريخ يوم ما من أيام تشرين الأول 1994، حصل انعطاف كبير في حياة ونتاج الروائي الكبير نجيب محفوظ، وقد انعكس وضعه الجَسَدي على نتاجه انعكاساً ايجابياً، فكتب على امتداد السنوات التالية عملين هما من أجمل ما كتب في حياته الإبداعية، «أصداء السيرة الذاتية» و «أحلام فترة النقاهة»... ولم يكفّ عن كتابة الأحلام، إلا حين اضطرّه عارض صحي للدخول الى المستشفى في الشهر الفائت (تموز، يوليو 2006). آخر حلم كتبه، كما نشر في «لوفيارو ماغازين» – التي كان يكتب فيها بين حينٍ وآخر – هو التالي:
«رأيت ناصراً في الحلم وهو يعطيني رغيف خبز من نوع خبز مصر العليا وهو يمتاز بأنه قاسٍ ومطبوخ على ضوء الشمس، فهو قد أعطاني إياه وطلب مني أن آكله».
يضيف محفوظ في المجلة نفسها: «الحلم حدود عالمي».
وهذا الحلم هو حلم سياسي وطني بامتياز... لكنّ رقعة أحلام نجيب محفوظ هي أكثر اتساعاً وأبعد أغواراً، بعضها يطلع من النوم والرؤيا، والبعض الآخر هو أحلام يقظة.
وقد اضطرت اصابة نجيب محفوظ ببعض الإعاقة الجسديّة، من شلل جزئي في عصب اليد اليمنى، وضعف بالغ في النظر، بنتيجة ما تعرض له في تشرين الأول (أكتوبر) 1994 من طعنات غدرٍ في عنقه من قبل متشددين جاهلين من الجماعة الإسلامية، اضافة الى وضعه الصحي الناجم عن مرض السكري الذي يعاني منه من مدة طويلة... الى اللجوء للذاكرة من جهة وللأحلام من جهة ثانية، ليملي شحنته الإبداعية على من يكتبها له على الورق. هكذا جاءت شيخوخة نجيب محفوظ مصحوبة بإعاقات جسدية وصحية، لكنها خصبة ومنتجة على صعيد الكتابة. أسمح لنفسي بأن أعتبر عملية الأخيرين، وهما أبرز ما كتبه في الشيخوخة: «أصداء السيرة الذاتية» و «أحلام فترة النقاهة»، بمثابة ولادة جديدة لهذا الروائي العظيم، صاحب المراحل والمفاجآت... لقد تولدت لديه رؤيا روائيّة جديدة، لعلها تطوير خصب ومتنوّع لمرحلة كتاب «المرايا»، وتتصف بصفتين أساسيتين هما: الشعرية المستندة الى الرؤيا والأحلام من جهة، والتركيز أو التكثيف المضغوط حتى حدود الانفجار لعنصري الحَدَث واللغة... فنجيب محفوظ الثاني، هو بالعربية، شاعر الرواية الأكبر، وروائي الشعر المفاجئ، ولا يشقّ له في هاتين السِمَتين غبار.
يلجأ الكاتب في عمليه المذكورين: السيرة (وهي الأهم والأعمق) والأحلام، الى خيمياء غريبة تدور في رأسه، وتعصف في تاريخه الذاتي والعام، ووجدانه... قبل أن تستوعبها الكلمات. تتقاطع في «أصداء السيرة الذاتية» شخصيّة نجيب محفوظ السِيَريّة (سيرته الذاتية) مع ذاته الثقافيّة المتخيّلة، أي تتقاطع مجمل إبداعاته الروائية الواقعية والمتخيّلة (كتب أكثر من خمسين رواية ومجموعات قصصية كثيرة إضافةً الى النصوص المسرحيّة)، مع نتف من سيرة حياته من الصِبا حتى الشيخوخة. فنحن هنا لسنا أمام عمل روائي صرف، ولسنا أمام مذكرات وسرد لوقائع سيرة حياتية، بل أمام عمل يبدأ من أرض الذاكرة ليصعد في فضاء التأمّل والثقافة.
وأول المفارقات ما تكشفه الأصداء من حقائق للذات الإبداعية لنجيب محفوظ، هي على عكس ما اعترف به أو أشيع عنه من أنه كائن اجتماعي محافظ ومنضبط، وينطوي على نفسيّة «موظّف» وسلوك يداري السلطة الحاكمة، أو القوى العالمية المسيطرة ولا يدعو لمناطحتها... حتى لكأنه يتلافى «الثورة» بمعناها السياسي والاجتماعي المباشر.
في «الأصداء» ينكشف لنا نجيب محفوظ آخر ومغاير. يكتب في إحدى نبذ السيرة: «دعوت للثورة وأنا دون السابعة. ذهبت ذات صباح الى مدرستي الأولية محروساً بالخادمة. سرت كمن يساق الى سجن. بيدي كراسة وفي عيني كآبة وفي قلبي حنين للفوضى...» فهو منذ السابعة من عمره، مشغوف بالثورة وداعية لها وفي قلبه حنين الفوضى (فأين الانضباط الوظيفي؟). ويكتب في النبذة الثانية «... واندلعت في باطني ثورة مباغتة، متسمة بالعنف متعطشة للجنون»... وحتى لا ننساق وراء إغراء الكلمات وخداعها، علينا أن ندرك خاتمة كل نبذة من النبذتين آنفتي الذكر... فالثورة التي دعا اليها محفوظ وهو دون السابعة كانت متعلقة بتظاهرات الطلاّب وإقفال المدارس بنتيجة ذلك. لذا كتب: «ومن صميم قلبي دعوت الله أن تدوم الثورة الى الأبد». كذلك اندلاع الثورة المباغتة المتسمة بالعنف المتعطشة للجنون، في باطنه... فقد اندلعت «أمام الجميلة ذات الضفيرة الطويلة السوداء».
نحن هنا أمام مبدع ملتبس، بل متعدد... وينبغي الحفر على طبقات ذاته الإبداعية.
يقول في الأصداء: «سألت الشيخ عبد ربه التائه: متى يصلح حال البلد؟ فأجاب: عندما يؤمن أهلها بأنّ عاقبة الجبن أوخمُ من عاقبة السلامة». وسوف نعثر في شخصيّة أصداء السيرة الذاتية وهي شخصيّة «عبد ربه التائه» 0 ولعلها الكاتب نفسه – على جميع الأشخاص الذين تراكموا أو تعاقبوا على نجيب محفوظ على امتداد مراحل حياته، من لدن مغادرته الطفولة، ودورانه في البحث عنها، حتى حدود الموت ومشارف القبر. ونجد أنفسنا أمام متأمّل وروائي بعيد الأغوار، خصب، متعدّد وصاحب أقنعة.
فهو يمشي، كما يقول «تتبعه نداءات الحب والموت»، ويتقلّب بين الذاكرة والنسيان حيث «قوّة الذاكرة تتجلّى في التذكّر كما تتجلّى في النسيان». ومحفوظ صاحب مقاطع وسِيَر عذبة في العشق وتمجيد الحياة، تقرّبه من الشعر الصافي. يقول في «خطبة الفجر»: «إذا راودك خاطر اكتئاب فعالجه بالحبَ والنغم» ويقول: «كابدت من الشوق ما جعل حياتي لهفة مكنونة في حنين».
ويظهر على نجيب محفوظ، من خلال عبد ربه التائه مسّ من الانجذاب الصوفي لم يكن موجوداً أو واضحاً في أعماله الروائية والقصصية السابقة. يظهر لنا، وهو يجري وراء قطار القناطر الخيريّة، وكأنه مشدود وراء قطار آخر ونداء يقول له «اترك كل شيءٍ واتبعني»... ولؤلؤته التي يراها في المنام، تخصّه وحده دون الناس. متعته كمتعة لاعب البليارد مع نفسه من دون لاعب يواجهه أو جمهور يلتفّ حوله «المتعة أن ألعب وحدي...» كما يقول.
ولا نحسبنَّ الشيخ نجيب محفوظ مستسلماً لسكينة الإيمان، وهدوء العقل وطمأنينة الشيخوخة... إنه أشدّ تركيباً وأجمل خلطةً وجودية من ذلك. انه يرى ويقول بضرورة الفوضى... يسوق في نبذة من السيرة خبراً عن رجل له ثلاثة أبناء عقد النيّة على السفر للحجّ، فاستدعاهم وسألهم واحداً واحداً:
- ماذا تقولون بعد الذي كان؟
أجاب الأكبر: لا أمل بغير القانون
وأجاب الأوسط: لا حياة بغير الحب
وأجاب الأصغر: العدل أساس القانون والحبّ
فابتسم الأب وقال: لا بدّ من شيء من الفوضى كي يفيق الغافل من غفلته. ونجيب محفوظ، صاحب أصداء السيرة الذاتية، هو عينه تاجر الأحلام الأكبر، في «أحلام فترة النقاهة»... ولعله مهّد لهذه الأحلام حين كتب في نهاية الأصداء «حذارِ... فإنني لم أجد تجارةً هي أربحُ من بيع الأحلام».
فمادّة «أحلام فترة النقاهة» مادّة حلميّة محض... مع عدم التخلّي عن الحدث الحكائي أو الروائي والشخصيات الروائية. فثمّة إذن، في أصداء السيرة كما في الأحلام، عناصر سرد روائي بعدّته الأساسية، من خلال انخطافات الشعر وأحلامه واختزاله التعبيري.
يقدّم لنا نجيب محفوظ، على الرغم من شيخوخته وضعفه، في «الأحلام» دليلاً اضافياً على «فحولة أدبية» (كما تقول سناء البيسي في مقدمتها للأحلام). إنه يشرخ في الأرض البكر. فبين المادّة الحلمية والفوضى الخلاّقة تتشكل نصوص أحلام فترة النقاهة بآلية سريالية عجيبة. فنحن أمام شريط من الأحلام ممتع مختصر مفاجئ يقترب فيه محفوظ من ساحة القصيدة، لجهة الكثافة والغرابة والمخيّلة. والأحلام ليست مجنونة وإن كانت غرائبيّة، وهي مرتّبة بضبط روائي يغوص في اللاوعي، ولكنه لا يغادر الوعي أو يقطع معه... ما يجعل بعضها قريباً من أحلام اليقظة... مع مقدار من الشطح يقل أو يزيد بين حلمٍ وآخر... ما يضفي على هذه الكتابة المفاجئة، شيئاً من الفنتازيا. يقول في حلم 64: «من شدّة الرعب تسمّرت قدماي في الأرض، فعلى بعد ذراعٍ منّي شبّت ثلاثة كلابٍ ضخمة، متوحشة، تريد أن تنقضّ عليّ لتفتُكَ بي لولا أن قبَضَتْ على أذيالها امرأة باستماتة»... وإلى اليمين وقعت كلبة في ريعان الشباب لآية في غزارة الشعر وبياضه ونعومته، وكانت تشاهد ما يحدث في قلق تجلّى في اهتزازات ذيلها المقصوص. وارتفع نباح الكلاب الثلاثة واشتعلت في أعينها الرغبة المتأججة في الفتك بي، ولما تعذّر عليها الوصول إليّ استدارت فجأةً ووثبت على المرأة. وعند ذلك اقتلع الرعب قلبي وارتمت عليّ الكلاب... أما الكلبة الجميلة فتطلّعت لي مدّة، وترددت لحظة عابرة، ثم ألقت بنفسها في المعركة دون مبالاةٍ بالعواقب». الأماكن والأزمنة في أحلام محفوظ، والحوادث والأشخاص تسبح في سَديم غرائبي متخيّل. نكون معه في حديقة فنغدو في شارع، ونبدأ من منزل بالعباسية (الحي السكني الذي يقيم فيه الكاتب في القاهرة) فينقلب المكان الى فيلاّ في موقع آخر. ويلتقي في الأحلام، الأحياء والأموات وتتبادل الأزمنة الأدوار فلا حدود مرسومة بين الصبا والكهولة، وبين الماضي والحاضر والمستقبل، وبين الواقعي والخيالي.
وأحلام محفوظ غالباً ما تلامس شؤون حياة عاشها الرجل، انما بالرمز والإيماء. والشيخ الجليل غالباً ما يحلم بالنساء العاريات، ولكن نادراً ما يصل اليهنّ بوصلٍ مريح. هو يحلم أيضاً بالحكومة والوظيفة والمنزل والأم والأخوات وبأصدقائه من الحرافيش... وربما عثرنا أحياناً على أحلام عبقرية وأحلام ساخرة وأحلام غرائبية الى جانب الأحلام العادية... وهكذا يتابع نجيب محفوظ بالكتابة، الواقع بالحلم، كما يمكن أن يتابع أيضاً، بالكتابة الإبداعية نفسها، الحياة بالموت».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق