٠٧‏/٠٩‏/٢٠٠٦

أدونيس
ذاكرة والواقع في الحرب الإسرائيلية على لبنان


- 1 –
الحصار الذي تواصل إسرائيل فرضـــه علــــى لبنان، تواصل في الوقت ذاته، فرضه على نفسها، إنسانياً وأخلاقياً. للمرة الأولى، أسمع في العالم بين الأوساط الثقافية أشخاصاً كانوا يقفون الى جانب هذه الدولة، من دون تحفظ، بدأوا يترددون في تأييدها، ويشكّون في صحة خطابها، وينتقدون ممارساتها. وهذه علامة مهمة، خصوصاً إذا عرفنا الهيمنة شبه الكلية التي تمارسها إسرائيل على هذه الأوساط، بل إن بعض «أصدقائها» من الكتاب والمفكرين بدأوا يطرحون أسئلة من هذا النوع، مثلاً: «إذا كانت إسرائيل ديموقراطية حقاً، كما تقول لنا، فلماذا لا تقبل أن يكون هناك أشخاصٌ لا يؤيدون سياستها»؟ و «لماذا تصرّ أن تفرض على الجميع أن يؤيدوها وأن يُحبوها»؟
- 2 –
من ناحية ثانية، يتابع هؤلاء الأصدقاء، قائلين: «أثبت قادة إسرائيل ويُثبتون، نظراً وعملاً، منذ نشوء دولتهم، أنهم لا يريدون أن يعيشوا في سلام عادل ودائم، لا مع الفلسطينيين، ولا مع العرب»، ويكمل بعضهم قائلاً: «على رغم ما عاناه الفلسطينيون، طوال أكثر من نصف قرن، في شتاتهم أو على أرضهم، دفاعاً عن حقوقهم المشروعة، وعلى رغم ما قدمته الأنظمة العربية الى إسرائيل، في الاعتراف بها، وفقاً لميثاق الأمم المتحدة، أو في إقامة علاقات معها، ديبلوماسية أو تجارية، أو الاثنتين معاً، فإن هذا كله بدا كأنه ليس إلا واجباً مفروضاً على العرب – طوعاً أو كرهاً».
هكذا، طول نصف قرن، بدا أن قادة إسرائيل، متعاونين ومتحدين مع قادة الولايات المتحدة، لا ينظرون عملياً الى العرب إلا بصفتهم:
إما ثروة ينبغي تجريدهم منها أو السيطرة عليها.
وإما أرضاً استراتيجية تجب «قيادتها» لأنهم لا يعرفون أن يقودوها.
وإما بشراً يجب استخدامهم، بطريقة أو بأخرى، عمّالاً وعملاء، أو عبيداً.
فليس هناك أي بعد إنساني أو حضاري في نظرة النظام الإسرائيلي الى العرب.
- 3 –
نعرف جميعاً أن للذاكرة مكاناً أول في حياة اليهود، وفي تاريخهم، وفي ثقافتهم. والغريب أن النظام الإسرائيلي يمحو من هذه الذاكرة كل ما يتصل بالعرب. فهو لا يفكر بتاريخ الأسلاف الذين ينتمي اليهم، والذين عاشوا في بيروت ودمشق وبغداد، وفي مكة والمدينة وصنعاء، وفي القاهرة والمغرب العربي، وفي الأندلس، جنباً الى جنب، وعلى جميع المستويات مع إخوانهم العرب. وعندما طُرد العرب من الأندلس، طُرد اليهود معهم، كأنهم شعب واحد. وصحيح أنهم تخاصموا، وتنافسوا، وتحاربوا، لكن تمّ ذلك في ما بينهم، كما كان يتم حتى في العائلة الواحدة، أو في القبيلة الواحدة، أو في ما بين القبائل العربية. وهكذا كانوا يواصلون حياتهم المشتركة. ولم يكن أحد ينادي بطردهم، أو قتلهم، كما يفعل هذا النظام اليوم، مع «جيرانه» العرب في فلسطين، مثلاً.
- 4 –
الأكثر غرابة هو أن الدول الغربية التي تقف الى جانب إسرائيل، لا تطرح سؤالاً واحداً حول هذا السلوك الذي يمارسه النظام الإسرائيلي إزاء العرب. ولا تتساءل، تبعاً لذلك، عن الدور الذي يقوم به، بتجبّره، وغطرسته واحتقاره للعرب، في توليد ردود الأفعال عند الشعوب العربية، بدءاً بالتذمر والنفور والكراهية، ورفض السلام مع نظام يحتقرهم، وانتهاء بالعنف إزاءها، وبالتشدد الأصولي، على أنواعه العنفية (الإرهابية) والفكرية.
وها هي تلك الدول تنظر الى الإرهاب كأنه ينبت عفواً من تلقائه، أو كأنه نقطة تجريدية، أو شكل من أشكال الوجود الميتافيزيقي، لا سبب له ولا علة، أو تنحصر أسبابه، في «إرادة» مجانية لتدمير الغرب، وحليفه النظام الإسرائيلي.
أما كيف نشأت هذه «الإرادة»، وما الأسباب الكامنة وراءها، فعلمُها عند الولايات المتحدة وإسرائيل وحدهما. وهو علم لا يكف عن الخلط الأحمق الغبي الظالم، بين الإرهاب، والتحرر، ونزعة الاستقلال. والحق اننا بتنا اليوم نخشى أن يُعدّ مثلاً نقد الثقافة الإسرائيلية، وبخاصة في جوانبها الدينية – الاجتماعية، نوعاً من الإرهاب، أو نوعاً من العداء للسامية.
- 5 –
كلا، لن يس
تطيع النظام الإسرائيلي أن يغلب العرب، أو أن يحاورهم، بقدرته على زرع الجثث في شوارع فلسطين أو لبنان (أو غيرهما – من يدري؟)، ولا بقدرته على تدمير المطارات والمرافئ والطرقات والجسور والعمارات، ومقومات الحياة، إضافة الى قتل البشر، وتهجيرهم وتشتيتهم.
لا يستطيع الإنسان أن يتغير أو يغير عدوّه، إذا لم يغيّر هو نفسه ما بنفسه. ولن يستطيع النظام الإسرائيلي أن يدخل في حوار حقيقي وخلاّق مع العرب، إلا إذا تحرر من الدمار الداخلي الذي يملأ عقله، وتحرر كذلك من الجثث ومن الألغام التي تزرعها في أعماقه الذاكرة والتاريخ والأحداث.
كل شيء يتيح للعرب أن يتساءلوا حول مصيرهم، إنسانياً وحضارياً، في هذا المناخ الذي يخلقه النظام الإسرائيلي، المناخ الحربي – اللاإنساني واللاحضاري، الذي رأينا نموذجه الأبرز (حتى الآن) في لبنان. ولا نتحدث عن فلسطين: لا عن الجدار العازل المشين، ولا عن التدمير المتواصل للحياة في فلسطين.
كيف يمكن الكلام على التعايش العربي – الإسرائيلي في هذا المناخ؟ والجواب يقدّمه الواقع نفسه»
أنصار هذا التعايش – السلام بين اليهود والعرب إنما هم قلّة ضئيلة تزداد تضاؤلاً. وهي قلة مهمشة غالباً، ومنبوذة أحياناً
.
- 6 –
قد تستطيع إسرائيل أن تغلب، موقتاً، ولكنها لا تقدر أن تقنع أحداً بـ «صحة» دعواها. وعجزها عن الإقناع يزداد طرداً مع قدرتها على التغلّب. غير أن التغلّب موقت، كما قلت. فهو من جهة عدواني، وهو من جهة ثانية، آليّ. وعلى إسرائيل وأنصارها في الغرب أن يتذكروا أن الانتصار الأخير ليس للآلة، وإنما هو للإنسان.
وأنا هنا لا أُماهي بين اليهود والنظام الإسرائيلي. ولا أُماهي كذلك بين العرب وأنظمتهم. وأقول هذا عارفاً إن النظر الى النظام، في معزل عن الشعب الذي يمثله، يستدعي نقاشاً. وفيه ما قد يُثير كثيراً من الخلافات.
ربما تعمل إسرائيل والولايات المتحدة على أخذ العِبرة من حربهما على لبنان، والإفادة منها في إعطاء الفلسطينيين حقوقهم المشروعة، بإقامة دولتهم المستقلة، والكف عملياً، خلافاً للمنطوق النظري، عن وضع العوائق في وجه قيام أنظمة عربية، ديموقراطي، حقاً.
فقد أُعلنت هذه الحرب بحجة القضاء على الإرهاب، متمثلاً هذه المرة في «حزب الله».
والنتيجة هي أنها كانت «قضاء» على لبنان، لا على هذا الحزب. فقد دُمّرت مطاراته، ومرافئه وطرقاته وجسوره. ودُمّرت آلاف العمارات وكثير من مقومات الحياة الزراعية، والاصطيافية، والصناعية. إضافة الى تهجير مليون نسمة، والى القتل والتشتيت وإعاقة المئات.
غير أن هذا التدمير المادي للبنان، لم يؤد، كما كان يُظن، الى تدميره، معنوياً وسياسياً، بحيث يُترجم ذلك في انقسامات وصراعات داخلية تنذر بحرب أهلية جديدة. على العكس، ازدادت وحدة اللبنانيين تماسكاً ورسوخاً، وازداد وعيهم بلا إنسانية النظام الإسرائيلي، واستهتاره بالإنسان وحقوقه. وازدرائه لكل ما هو حضاري. وهكذا ازدادوا كراهية لهذا النظام وعداء. ونهض بينهم وبين فكرة السلام حاجز قوي متين، يؤسف له كثيراً، والسبب فيه هو النظام الإسرائيلي.
يُضاف الى ذلك شعور الاعتزاز بالبطولات التي أثبتها اللبنانيون في مقاومة الغزو الإسرائيلي، وفي التصدي له، وفي تمزيق هالة الغطرسة عن «جيش إسرائيلي لا يُغلب».
والأعمق من هذا كله هو أن هذا الغزو عمّق عند اللبنانيين إرادة الوحدة في نموذج فريد للديموقراطية في الشرق العربي، وفي ترسيخ هذا النموذج القائم على التعددية الثقافية، وعلى التنوّع البشري، والانفتاح على الآخر، خلافاً لما نراه في إسرائيل، وفي معظم البلدان العربية.
 Posted by Picasa

ليست هناك تعليقات: