الغربــاء
قصة قصيرة: حامد الزبيدي
رأى الشمس تقهقر السماء وتطوي وجهها المتلبد بالغيوم ثم تسحب قواها المضيئة وترحل مبتسمةً إلى الأقاصي، تبحث عن سماوات أخرى، تُرهقها، تكسرها، وتترك وراءها نحيب النجوم الذليل، تواسي السماوات الحزينة، غير مكترثة بآهات الريح العالية التي تجوب في الأمكنة الخالية، تحدث فيها الذعر، تموت الطرقات وترتجف الأشجار، ترتعد الحيوانات من صوتها المفزع، يتقادح البرق ويجلجل الهز يم مرتعداً وكأن الموت جاء متلفعاً بالظلام.
تلك الصور، رسمتها له مخيلته أثناء توجهه إلى بيته الكائن في ذلك الزقاق الموحل، كان يمش بمحاذاة الجدران الآيلة للسقوط بخطى حثيثة، وقف في منتصف الزقاق حينما رأى شبحاً أسوداً، جاثماً جوار باب بيته، أطلق قدميه، تتخبط، تغوص بالمياه الآسنة، انتابه الشكوك وساورته الوساوس، بدأ لا يعي في أي مكان يضع قدميه، كان يركض بكل ما أوتي من قوةٍ، تصادمت قدماه، انكب على وجهه، تبللت ملابسه، اتسخت بالادران القذرة وأصبحت كأنها ملابس حدّاد او فحّام، نهض من سقطته، مسح الطين الأسود عن وجهه، مشى مسرعاً كالمخمور، لا يعي بما جرى له، كان كلما يتقدم خطوةً، تتضح هوية الشبح، كانت سيارة بيكب، تقف أمام الباب، وبعض أبواب الزقاق مفتوحةً وخلفها رجال يتلصصون، اقترب من أحد الأبواب، اغلق في وجهه فجأةً، مضى خلسةً إلى البيت الذي يجاوره، دفع الباب بقوة ودخل عنوة غير مبال بالأعراف التي كان يؤمن بها ولا يخرج عن حدودها، منعه من الدخول جاره الذي كان يتلصص على بيته، احتضنه وقال له هامساً:
-من أنت؟
-أجابه لاهثاً- ألا تعرفني يا رجل؟
أرخى يديه وقال بشيء من القسوة والغلظة:
-بيتك مكتظ بالرجال الغرباء.
-أي رجال؟
-لا أعلم .. إذا أردت أن تعرف، عليك التسلل من هنا (أشار بيده إلى الجدار الفاصل بين بيتيهما)- وقتها ستنجلي لك الحقائق، لا تبقى هنا نحن نخاف على.. نحن محافظون.
شعر بإهانة لا تغتفر من جاره الذي تمادى عيه كثيراً، انتابه شك عارم، ضغط على أعصابه المتوترة وأوصاله المرتجفة، لكنه أثبط هممها وكظم حمم البراكين المتفجرة في أعماقه، استدار عنه متجهاً إلى الجدار، مد يديه إلى نهايته ثم سحب جسده إلى الأعلى، هبط كاللص، يمشي على رؤوس أصابعه بتوجس بالغ وحذر شديد وصراخ يدمدم في نفسه:
-من هؤلاء؟ من سمح لهم بالدخول إلى بيتي من دون علمي؟ ربما..
سكتت نفسه عن الصراخ لحظة اقترابه من النافذة العارية من الزجاج، وقف بجانبها، يصيخ السمع إلى لغوٍ غير مفهوم وتحركات غير اعتيادية، دفع رأسه ببطء، تجمدت عيناه، انقطع نفسه، اجتثت السكينة من جذور أحشائه وضاع الأمان في أعماقه، مات كل شيء فيه إلا ذلك الدبيب الذي يخفق في قلبه، من تلك الأوهام المريعة، ذاب الجليد في عينيه ومضى ينظر في أجواء الغرفة من دون ان يراه أحد، رأى ثلاثة رجال مسلحين، كان أحدهم يقلب محتويات الغرفة رأساً على عقب، يبحث عن شيء ما، والآخر يتفحص المجلدات في المكتبة الخشبية الصغيرة، كان كلما يفرغ من مجلد، يلقيه تحت قدميه بلا عنايةٍ أما الرجل الثالث، كان يقف بالقرب من أولاده وزوجته المرتجفة ويده على قبضة المسدس، ينظر إلى الذين دفنوا ظهورهم بالجدار، يتفرس بالوجوه المملوءة بالخوف، وجوه شاحبة، ذابلة، ترتعد من لحظة إطلاق النار عليها، تمعّن في وجه الرجل الثالث كثيراً، وقال في ذات نفسه:
-إني اعرف هذا القذر! ولكن أين.. أين؟
لم تسعفه الذاكرة المشوشة لذا تركه ومضى يرنوا إلى ابنه الصغير، ركز بحنو وعيناه مغرورقتان في وجهه الصغير الذي أتعبه الوقوف وأرهقه الخوف، قد رأى الموت مرسوماً على صفحات خديه الطريتين، بال الطفل على نفسه من دون ان يشعر، ثم اسند رأسه إلى الجدار، يسأله بصمت عن وسادة او عن غطاء يدفأ جسده المرتجف.
وميض مرعب في السماء ورعد صارخ، رياح تشتد قسوتها، وعواء ذئاب في البساتين، تشكل ليلة قاسية في أعماقه، نزل المطر، غسل وجهه من الطين الأسود وطهر ملابسه الموحلة وهو لا يزال في مكانه ينظر إلى ابنه الصغير الواقف، النائم، الذي يتلظى في أقسى حالات الإرهاب، والى زوجته التي كانت تتلوى من شدة الألم، تعض شفتها السفلى وتعصر جفنيها، ينكمش وجهها الطفولي، تتضرع في عيون الصبر ان ترعاها ولا تتركها مرتعاً للألم، بعد ان فرغوا من جولة البحث والتقصي، خرجوا من الغرفة مطأطئ الرؤوس، انطلقت سيارتهم في الزقاق الموحل والنجوم تنظر إليهم، دخل إلى الغرفة يتطلع في الوجوه الشاحبة والعيون الغارقة في الخوف، قالت له زوجته:
-اخرج من البيت حالاً.. اهرب انهم يبحثون عنك.
التفت إلى أبناءه وقال لهم بهدوء:
-اذهبوا إلى فراشكم ناموا بهدوء.
ذهبوا إلى فراشهم في الغرفة المجاورة، أحدج زوجته بنظرةٍ سريعةٍ وقال لها برفق:
-أغلقِ الباب.. البرد يلسع عظامي.
أغلقت الباب، فخلع ملابسه المبللة وكان يرتجف من البرد، جلبت له ملابس النوم من الخزانة المبعثرة ذات الشكل الفوضوي، أخذ منها الملابس ثم ارتداها بلا استحمام، جلس على بساط متهرئ بصمت، أحنت قامتها والتقطت ملابسه المبللة ووضعتها في جردل قديم متآكل ثم تركته واستلقت على فراشها، تنظر إلى سقف الغرفة الناضح ثم قالت:- يا لها من ليلة مشؤومة.
-ثقِ لست المعني. انه مجرد اشتباه لا اكثر.
-اقنع نفسك.. انهم قصدوك بالذات.
أدارت جسدها عنه وهو بقى في جلسته، أشعل سيجارته وبدأ يتأمل في الأيام المنصرمة، وتساؤلات كثيرة في ذهنه: هل سرقت شيء في يوم ما؟ هل تحرشت؟ هل تعاطيت المخدرات او تكلمت بالممنوعات؟ ، وكان يجيب في نفسه: لا.. لا…
-ولكن بماذا تفسر مجيئهم في الليل، ومن دون سابق إنذار، يدوسون البيت.. ثم من هؤلاء من؟
شعر بألم في بلعومه عندما أزدرد ريقه الناشف وقال لنفسه:
-إنني اعرف أحدهم.. اجل اعرف ذلك الرجل الذي كان يقف بالقرب من زوجتي.. ولكن أين؟
(ضرب جبهته براحة يده) حتّام تخونني الذاكرة.. إنني لا أتذكره بالضبط ولكنني اعرفه حق المعرفة.
تيقظت ذاكرته وقلّبت الأيام المحفورة فيها، تبحث عن ذلك الوجه المفزع الذي يعرفه، تذكره، كان يزامله في الدراسة قبل عشرين عاماً خلت، كان صديقه الحميم الذي لا يفارقه، نهض من مكانه وبدأ يذرع الغرفة يروح ويجيء، يجمع أشتات مخيلته ويثبّت أوهامه في وجوده، ولكنه لم يقدر أن يجمع بينهم، حيث تطير خيالاته سارحةً هناك ويبقى وجوده الفارغ هنا، التفت إلى زوجته الغارقة في النوم وقال لها:- إنني ارفض هذا العالم الغريب، الذي يمنح الحيوانات التي تفتقر إلى التهذيب حق الحياة ويحكم عليَّ بالموت.
صاحت الديكة وانتهى الليل البهيم، خرج من البيت وفي ذهنه ونفسه صراع مرير، ذهب متجهاً إلى حي الأثرياء، حيث ان الذي جاء إليه بالأمس واشعل نار الخوف، يسكن فيه، وقف أمام باب القصر الكبير وهو يفكر كيف سيكون اللقاء، وقفت أمام الباب سيارة حديثة فارهة، حدجها بنصف عينه ثم تمشى قليلاً عنها، فتح الباب صديقه، وثب إليه وتصنع الصدفة والتقى به، وكان اللقاء بارداً، ذكرّه بزمالته ولكن صديقه لم يتذكر بل ونفى الماضي برمته، كان فرحاً سعيداً لعدم معرفته به، خطر بباله الذي أتى من اجله وقال إليه:
-ماذا كنتم تريدون مني ليلة أمس؟
نظر إليه باستغراب ودهشة وأردف:
-نعم؟
أعاد عليه ما قال له في البدء، رد عليه بكبرياء.
-إنني لم أعرفك.. فكيف لي أن اعلم أين أنت تسكن؟
تركه كما لو يترك إنسان وضيع وصعد في السيارة، انطلقت وهو ينظر إليه بحيرة ثم عرج إلى بيته راكضاً، دفع الباب، دخل إلى الغرفة المبعثرة، صاح على زوجته وعلى ابناءه، لم يتلقَ رد منهم، بحث حتى تيقن ان لا أحد سواه في البيت، نظر إلى الجردل المختنق بملابسه المبللة، اقترب من المنضدة بعد ان أطبق عليه الذهول، جلس على المنضدة وقدماه تتأرجحان في الهواء، مد يديه إلى الخلف ليعتمد عليهما، وجد تحت يده ورقة صغيرة، نظر فيها، أنها رسالة مكتوبة بخط زوجته، فتذكر أن زوجته كتبتها إليه أول أمس قبل سفرها إلى أهلها، بهت وهو يتفرس بأرجاء الغرفة ولم يجد أي تفسير لهذه الفوضى.
حامد الزبيدي
19/1/2002
mu29@hotmail.com
قصة قصيرة: حامد الزبيدي
رأى الشمس تقهقر السماء وتطوي وجهها المتلبد بالغيوم ثم تسحب قواها المضيئة وترحل مبتسمةً إلى الأقاصي، تبحث عن سماوات أخرى، تُرهقها، تكسرها، وتترك وراءها نحيب النجوم الذليل، تواسي السماوات الحزينة، غير مكترثة بآهات الريح العالية التي تجوب في الأمكنة الخالية، تحدث فيها الذعر، تموت الطرقات وترتجف الأشجار، ترتعد الحيوانات من صوتها المفزع، يتقادح البرق ويجلجل الهز يم مرتعداً وكأن الموت جاء متلفعاً بالظلام.
تلك الصور، رسمتها له مخيلته أثناء توجهه إلى بيته الكائن في ذلك الزقاق الموحل، كان يمش بمحاذاة الجدران الآيلة للسقوط بخطى حثيثة، وقف في منتصف الزقاق حينما رأى شبحاً أسوداً، جاثماً جوار باب بيته، أطلق قدميه، تتخبط، تغوص بالمياه الآسنة، انتابه الشكوك وساورته الوساوس، بدأ لا يعي في أي مكان يضع قدميه، كان يركض بكل ما أوتي من قوةٍ، تصادمت قدماه، انكب على وجهه، تبللت ملابسه، اتسخت بالادران القذرة وأصبحت كأنها ملابس حدّاد او فحّام، نهض من سقطته، مسح الطين الأسود عن وجهه، مشى مسرعاً كالمخمور، لا يعي بما جرى له، كان كلما يتقدم خطوةً، تتضح هوية الشبح، كانت سيارة بيكب، تقف أمام الباب، وبعض أبواب الزقاق مفتوحةً وخلفها رجال يتلصصون، اقترب من أحد الأبواب، اغلق في وجهه فجأةً، مضى خلسةً إلى البيت الذي يجاوره، دفع الباب بقوة ودخل عنوة غير مبال بالأعراف التي كان يؤمن بها ولا يخرج عن حدودها، منعه من الدخول جاره الذي كان يتلصص على بيته، احتضنه وقال له هامساً:
-من أنت؟
-أجابه لاهثاً- ألا تعرفني يا رجل؟
أرخى يديه وقال بشيء من القسوة والغلظة:
-بيتك مكتظ بالرجال الغرباء.
-أي رجال؟
-لا أعلم .. إذا أردت أن تعرف، عليك التسلل من هنا (أشار بيده إلى الجدار الفاصل بين بيتيهما)- وقتها ستنجلي لك الحقائق، لا تبقى هنا نحن نخاف على.. نحن محافظون.
شعر بإهانة لا تغتفر من جاره الذي تمادى عيه كثيراً، انتابه شك عارم، ضغط على أعصابه المتوترة وأوصاله المرتجفة، لكنه أثبط هممها وكظم حمم البراكين المتفجرة في أعماقه، استدار عنه متجهاً إلى الجدار، مد يديه إلى نهايته ثم سحب جسده إلى الأعلى، هبط كاللص، يمشي على رؤوس أصابعه بتوجس بالغ وحذر شديد وصراخ يدمدم في نفسه:
-من هؤلاء؟ من سمح لهم بالدخول إلى بيتي من دون علمي؟ ربما..
سكتت نفسه عن الصراخ لحظة اقترابه من النافذة العارية من الزجاج، وقف بجانبها، يصيخ السمع إلى لغوٍ غير مفهوم وتحركات غير اعتيادية، دفع رأسه ببطء، تجمدت عيناه، انقطع نفسه، اجتثت السكينة من جذور أحشائه وضاع الأمان في أعماقه، مات كل شيء فيه إلا ذلك الدبيب الذي يخفق في قلبه، من تلك الأوهام المريعة، ذاب الجليد في عينيه ومضى ينظر في أجواء الغرفة من دون ان يراه أحد، رأى ثلاثة رجال مسلحين، كان أحدهم يقلب محتويات الغرفة رأساً على عقب، يبحث عن شيء ما، والآخر يتفحص المجلدات في المكتبة الخشبية الصغيرة، كان كلما يفرغ من مجلد، يلقيه تحت قدميه بلا عنايةٍ أما الرجل الثالث، كان يقف بالقرب من أولاده وزوجته المرتجفة ويده على قبضة المسدس، ينظر إلى الذين دفنوا ظهورهم بالجدار، يتفرس بالوجوه المملوءة بالخوف، وجوه شاحبة، ذابلة، ترتعد من لحظة إطلاق النار عليها، تمعّن في وجه الرجل الثالث كثيراً، وقال في ذات نفسه:
-إني اعرف هذا القذر! ولكن أين.. أين؟
لم تسعفه الذاكرة المشوشة لذا تركه ومضى يرنوا إلى ابنه الصغير، ركز بحنو وعيناه مغرورقتان في وجهه الصغير الذي أتعبه الوقوف وأرهقه الخوف، قد رأى الموت مرسوماً على صفحات خديه الطريتين، بال الطفل على نفسه من دون ان يشعر، ثم اسند رأسه إلى الجدار، يسأله بصمت عن وسادة او عن غطاء يدفأ جسده المرتجف.
وميض مرعب في السماء ورعد صارخ، رياح تشتد قسوتها، وعواء ذئاب في البساتين، تشكل ليلة قاسية في أعماقه، نزل المطر، غسل وجهه من الطين الأسود وطهر ملابسه الموحلة وهو لا يزال في مكانه ينظر إلى ابنه الصغير الواقف، النائم، الذي يتلظى في أقسى حالات الإرهاب، والى زوجته التي كانت تتلوى من شدة الألم، تعض شفتها السفلى وتعصر جفنيها، ينكمش وجهها الطفولي، تتضرع في عيون الصبر ان ترعاها ولا تتركها مرتعاً للألم، بعد ان فرغوا من جولة البحث والتقصي، خرجوا من الغرفة مطأطئ الرؤوس، انطلقت سيارتهم في الزقاق الموحل والنجوم تنظر إليهم، دخل إلى الغرفة يتطلع في الوجوه الشاحبة والعيون الغارقة في الخوف، قالت له زوجته:
-اخرج من البيت حالاً.. اهرب انهم يبحثون عنك.
التفت إلى أبناءه وقال لهم بهدوء:
-اذهبوا إلى فراشكم ناموا بهدوء.
ذهبوا إلى فراشهم في الغرفة المجاورة، أحدج زوجته بنظرةٍ سريعةٍ وقال لها برفق:
-أغلقِ الباب.. البرد يلسع عظامي.
أغلقت الباب، فخلع ملابسه المبللة وكان يرتجف من البرد، جلبت له ملابس النوم من الخزانة المبعثرة ذات الشكل الفوضوي، أخذ منها الملابس ثم ارتداها بلا استحمام، جلس على بساط متهرئ بصمت، أحنت قامتها والتقطت ملابسه المبللة ووضعتها في جردل قديم متآكل ثم تركته واستلقت على فراشها، تنظر إلى سقف الغرفة الناضح ثم قالت:- يا لها من ليلة مشؤومة.
-ثقِ لست المعني. انه مجرد اشتباه لا اكثر.
-اقنع نفسك.. انهم قصدوك بالذات.
أدارت جسدها عنه وهو بقى في جلسته، أشعل سيجارته وبدأ يتأمل في الأيام المنصرمة، وتساؤلات كثيرة في ذهنه: هل سرقت شيء في يوم ما؟ هل تحرشت؟ هل تعاطيت المخدرات او تكلمت بالممنوعات؟ ، وكان يجيب في نفسه: لا.. لا…
-ولكن بماذا تفسر مجيئهم في الليل، ومن دون سابق إنذار، يدوسون البيت.. ثم من هؤلاء من؟
شعر بألم في بلعومه عندما أزدرد ريقه الناشف وقال لنفسه:
-إنني اعرف أحدهم.. اجل اعرف ذلك الرجل الذي كان يقف بالقرب من زوجتي.. ولكن أين؟
(ضرب جبهته براحة يده) حتّام تخونني الذاكرة.. إنني لا أتذكره بالضبط ولكنني اعرفه حق المعرفة.
تيقظت ذاكرته وقلّبت الأيام المحفورة فيها، تبحث عن ذلك الوجه المفزع الذي يعرفه، تذكره، كان يزامله في الدراسة قبل عشرين عاماً خلت، كان صديقه الحميم الذي لا يفارقه، نهض من مكانه وبدأ يذرع الغرفة يروح ويجيء، يجمع أشتات مخيلته ويثبّت أوهامه في وجوده، ولكنه لم يقدر أن يجمع بينهم، حيث تطير خيالاته سارحةً هناك ويبقى وجوده الفارغ هنا، التفت إلى زوجته الغارقة في النوم وقال لها:- إنني ارفض هذا العالم الغريب، الذي يمنح الحيوانات التي تفتقر إلى التهذيب حق الحياة ويحكم عليَّ بالموت.
صاحت الديكة وانتهى الليل البهيم، خرج من البيت وفي ذهنه ونفسه صراع مرير، ذهب متجهاً إلى حي الأثرياء، حيث ان الذي جاء إليه بالأمس واشعل نار الخوف، يسكن فيه، وقف أمام باب القصر الكبير وهو يفكر كيف سيكون اللقاء، وقفت أمام الباب سيارة حديثة فارهة، حدجها بنصف عينه ثم تمشى قليلاً عنها، فتح الباب صديقه، وثب إليه وتصنع الصدفة والتقى به، وكان اللقاء بارداً، ذكرّه بزمالته ولكن صديقه لم يتذكر بل ونفى الماضي برمته، كان فرحاً سعيداً لعدم معرفته به، خطر بباله الذي أتى من اجله وقال إليه:
-ماذا كنتم تريدون مني ليلة أمس؟
نظر إليه باستغراب ودهشة وأردف:
-نعم؟
أعاد عليه ما قال له في البدء، رد عليه بكبرياء.
-إنني لم أعرفك.. فكيف لي أن اعلم أين أنت تسكن؟
تركه كما لو يترك إنسان وضيع وصعد في السيارة، انطلقت وهو ينظر إليه بحيرة ثم عرج إلى بيته راكضاً، دفع الباب، دخل إلى الغرفة المبعثرة، صاح على زوجته وعلى ابناءه، لم يتلقَ رد منهم، بحث حتى تيقن ان لا أحد سواه في البيت، نظر إلى الجردل المختنق بملابسه المبللة، اقترب من المنضدة بعد ان أطبق عليه الذهول، جلس على المنضدة وقدماه تتأرجحان في الهواء، مد يديه إلى الخلف ليعتمد عليهما، وجد تحت يده ورقة صغيرة، نظر فيها، أنها رسالة مكتوبة بخط زوجته، فتذكر أن زوجته كتبتها إليه أول أمس قبل سفرها إلى أهلها، بهت وهو يتفرس بأرجاء الغرفة ولم يجد أي تفسير لهذه الفوضى.
حامد الزبيدي
19/1/2002
mu29@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق