قراءة
قصص ( ما بين الحب والحب )
نزيف الذاكرة
كُليزار أنور
في مجموعته الأخيرة ( مابين الحب والحب) نرى القاص محمد الأحمد وكأنهُ ابن بحر .. مغامر، متمرد .. أحلامهُ متسعة دائماً ، نامية كالبالون تأخذه وتطير به إلى آفاق أبعد ومديات أوسع .. يحلم بالانقلابات في شكل القصة .. وهو يحققها ومهما كانت النتائج معه أو ضده .. لا يهم، فالمهم – بنظره – أن يسير خلف أحلامه التي ترضيه هو .. هو وحده كقاص .
إذاً .. وجدناه مسافر دائماً .. مسافر بأسلوبه المنفرد وكأنه يسكن خريطة ممتدة على الدوام .. والأسلوب منبع الكتابة الرئيسي !
لغة قصصه مدهشة بإتقانها .. معتزة بعنفوانها الحاد.. لغة موحية ، بالغة التأثير فينا ، فلا فكر ولا حس بدون لغة قوية .. وهذا ما نلمسه بوضوح في أسلوب القاص عموماً .. نقاء العبارة ، وقوة اللغة ، ومسألة أخرى .. الوصف ، فالوصف دقيق ، راقٍ ، شاعري .. عندما يوصف لا نشعر بأننا أمام قصة ، بل أمام لوحة خرجت – تواً – من تحت أنامل فنان حقيقي ، ماهر يتقن صنعته عن خبرة وموهبة فذة .
أربعة عشر قصة بين دفتي ( مابين الحب والحب ) :
· ( ذاكرة ما ) .
بعض الماضي يكون قاسياً لا يحتملهُ الإنسان ، فيحاول أن يمحوه تماماً من الذاكرة ، لكن مجرد علامة صغيرة أو تذكار بسيط بإمكانه أن يفتق الجرح ليبدأ النزف من جديد !
· ( الصفر نصف قطر دائرتي ) .
هل هناك فرق بين اليابسة والماء .. هل هناك فرق بين المرأة والسمكة ؟؟!! ترابط جميل .. خرزات ملونة لشخصيات متعددة ( أب وامرأة وشقيقتها وهو ) جُمعت في خيط واحد لتتكون قصة !
· ( ورطة ) .
قصة حرب ، أو بالأحرى فصل من فصول الحرب . رجل سرقت الحرب منه زوجته ويده اليسرى .. هذه كانت ورطته بالضبط " ولم يستفزني شيء مثلما استفزتني الذراع الساقطة بين قدمي دون أن أعيها .. سقطت مثل غصن انتزعته يد حطاب ماهر . ألتمس بيميني يساري فلا أجدها . أفزع أكثر ، والدم تدفق مني مثل ماء من نبع . الألم فزع أيضاً .. الليل أمات نفسه بين قبضتي ، آلم توقظ فطوحت ببندقيتي بعيداً التقطت ذراعي وابتدأت أجري متخطياً كل القذائف .. أركض بينما بقي كل ما خلفي محطوباً " ص 25 .
· ( كان ) .
شجرة الحب الأول .. من الممكن أن تعود إلينا مرة ثانية ، لكن هل ستثمر كما أول مرة؟ بالطبع لا ! فالحرب أحرقتها ، مثلما أحرقت كل شيء جميل في هذا البلد .
عنوان القصة ( كان ) . وكان .. فعل ماضٍ ناقص . أراد الكاتب أن يوحي لنا في قصته أن ( الحب .. كان ) !
· ( بعد الجمر .. قبل الرماد ) .
الحرب .. مرة ثالثة في هذه القصة أيضاً . امرأة ، أُم لابنة .. لا تصدق بأن زوجها خطفتهُ مخالب الحرب من بين أحضانها .. ما زالت تتخيل وجوده " وانطلقت إليه تستعجله قبل أن يبرد طعامه .. بحثت عنه في الغرفة فلم تجده . طرقت باب الحمام ولم يجبها .. بهتت عندما لم تجده . انطلقت كالمذعورة من مكان إلى آخر في البيت ولم تجده دون أن تفطن للباب الخارجي الذي كان مقفلاً من الداخل منذ نهارين !! " ص 43 .
· ( مابين الحب والحب ) .
للوهلة الأولى يتصور القارئ وهو يقرأ السطور الأولى من القصة بأن الكاتب يقصد بين ( الحُب و الحْب ) أي الوجد : معنىً للأولى .. وكوز الماء : معنىً للثانية . وقد جعل الربط بينهما كفكرة للقصة ، لكن ما أن نستغرق في القراءة نكتشف بأن الكاتب يقصد ( الحُب و الحُب ) والفرق ما بين الحب كوجد والحب الأبوي .
قصة لها طابع متميز لأسلوب لهُ بُعد وجداني .. كانت تستحق أن يختارها القاص عنواناً لمجموعته .
· ( عودة الصبي ) .
اتخذ القاص المونولوج كوسيلة لتحقيق تحليله النفسي لرجل ستيني يتذكر أيام طفولته الشقية .
· ( محمد أحمد ) .
كلنا يؤمن بأن الإبداع هو عمل يصنعهُ فرد واحد .. ومن هنا نجد التفرد بين قاص وقاص، بين روائي وروائي آخر ، بين شاعر وشاعر آخر .. وبين قصة وقصة أخرى .
( محمد أحمد ) . أكثر قصة أعجبتني من قصص المجموعة .. وكانت فعلاً قصة مدهشة ، رائعة صيغت بذكاء ( عنواناً وأسلوباً وفكرةً وهدفاً ومعنىً ) ومهما علّقت عليها ، فلن أمنحها حقها الكامل .. لذا سأصمت بكل إعجاب أمامها !
وكان القاص محمد الأحمد مبدعاً – بحق – في قصته ( محمد أحمد ) !!!
· ( السائس ) .
تعاطفت مع هذه القصة – بالذات – كثيراً .. لا أدري ! شعرتها حقيقية .. وكأنها حدثت مع القاص بكل تفاصيلها الدقيقة .
· ( الظل الموحش ) .
ماذا بقي له من والده سوى تمثال .. تمثال يعز عليه حتى بيعه " السؤال يكبر ، والألم يتفاقم بالأسئلة . الصمت يجمع بين الروح والتمثال . الأسئلة تضيع ، وتهاجمني رائحة كقوة الضوء المتسرب عليّ .. أحدق عبر النافذة .. تمتد خطوط بصري ، ولا تلتقي بالذي أريد . الصمت يتفاقم بيني وبين التمثال الذي بدأ بابتسامة صغيرة لم تكد تبين :
- أبي .. أجبني أرجوك ؟ " ص 85 .
ولا يأتيه جواب سوى صوت ارتطام !
· ( خيانة زمن ) .
قصة لها بعدها الفلسفي !
· ( حمار ) .
علينا أن نقرأ القصة كاملةً لنعرف لماذا سماها (حمار) ؟! وعندما نعرف.. نكاد أن ننفجر من الضحك.. قصة لها مغزى جميل كُتبت بأسلوب ساخر وجاد – بنفس الوقت – أشبه بما يُسمى بِـ( الكوميديا السوداء ) !
· ( كتاب الحندل وأبوابه ) .
حكاية غريبة عن رجل يكتشف قبواً في منزله الذي اشتراه ، فيقرر أن يدخله.. مفاجأة تقوده / تقودنا إلى مفاجأة وكأنها قصة من قصص ألف ليلة وليلة بكل غرائبها . ويقرر الرجل في النهاية أن يدوّن ما رآه في كتاب !
· ( دمعة بيكاسو ) .
هل يمكن أن تُقرأ اللوحة قراءة أدبية ؟ بالتأكيد: نعم !
· ( أحوال شخصية ) .
قصة ممتلئة بروائح الخيانة والغدر والوحشة والنفاق والكذب والحقد والكره .. وكل مسميات الخداع .. إنها دمعة حارقة نزلت من أجلِ امرأة لا تستحق دمعة رجل !
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ( مابين الحب والحب ) . مجموعة قصصية للقاص محمد الأحمد صادرة عن دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد / 2002 .
gulizaranwar@yahoo.com
قصص ( ما بين الحب والحب )
نزيف الذاكرة
كُليزار أنور
في مجموعته الأخيرة ( مابين الحب والحب) نرى القاص محمد الأحمد وكأنهُ ابن بحر .. مغامر، متمرد .. أحلامهُ متسعة دائماً ، نامية كالبالون تأخذه وتطير به إلى آفاق أبعد ومديات أوسع .. يحلم بالانقلابات في شكل القصة .. وهو يحققها ومهما كانت النتائج معه أو ضده .. لا يهم، فالمهم – بنظره – أن يسير خلف أحلامه التي ترضيه هو .. هو وحده كقاص .
إذاً .. وجدناه مسافر دائماً .. مسافر بأسلوبه المنفرد وكأنه يسكن خريطة ممتدة على الدوام .. والأسلوب منبع الكتابة الرئيسي !
لغة قصصه مدهشة بإتقانها .. معتزة بعنفوانها الحاد.. لغة موحية ، بالغة التأثير فينا ، فلا فكر ولا حس بدون لغة قوية .. وهذا ما نلمسه بوضوح في أسلوب القاص عموماً .. نقاء العبارة ، وقوة اللغة ، ومسألة أخرى .. الوصف ، فالوصف دقيق ، راقٍ ، شاعري .. عندما يوصف لا نشعر بأننا أمام قصة ، بل أمام لوحة خرجت – تواً – من تحت أنامل فنان حقيقي ، ماهر يتقن صنعته عن خبرة وموهبة فذة .
أربعة عشر قصة بين دفتي ( مابين الحب والحب ) :
· ( ذاكرة ما ) .
بعض الماضي يكون قاسياً لا يحتملهُ الإنسان ، فيحاول أن يمحوه تماماً من الذاكرة ، لكن مجرد علامة صغيرة أو تذكار بسيط بإمكانه أن يفتق الجرح ليبدأ النزف من جديد !
· ( الصفر نصف قطر دائرتي ) .
هل هناك فرق بين اليابسة والماء .. هل هناك فرق بين المرأة والسمكة ؟؟!! ترابط جميل .. خرزات ملونة لشخصيات متعددة ( أب وامرأة وشقيقتها وهو ) جُمعت في خيط واحد لتتكون قصة !
· ( ورطة ) .
قصة حرب ، أو بالأحرى فصل من فصول الحرب . رجل سرقت الحرب منه زوجته ويده اليسرى .. هذه كانت ورطته بالضبط " ولم يستفزني شيء مثلما استفزتني الذراع الساقطة بين قدمي دون أن أعيها .. سقطت مثل غصن انتزعته يد حطاب ماهر . ألتمس بيميني يساري فلا أجدها . أفزع أكثر ، والدم تدفق مني مثل ماء من نبع . الألم فزع أيضاً .. الليل أمات نفسه بين قبضتي ، آلم توقظ فطوحت ببندقيتي بعيداً التقطت ذراعي وابتدأت أجري متخطياً كل القذائف .. أركض بينما بقي كل ما خلفي محطوباً " ص 25 .
· ( كان ) .
شجرة الحب الأول .. من الممكن أن تعود إلينا مرة ثانية ، لكن هل ستثمر كما أول مرة؟ بالطبع لا ! فالحرب أحرقتها ، مثلما أحرقت كل شيء جميل في هذا البلد .
عنوان القصة ( كان ) . وكان .. فعل ماضٍ ناقص . أراد الكاتب أن يوحي لنا في قصته أن ( الحب .. كان ) !
· ( بعد الجمر .. قبل الرماد ) .
الحرب .. مرة ثالثة في هذه القصة أيضاً . امرأة ، أُم لابنة .. لا تصدق بأن زوجها خطفتهُ مخالب الحرب من بين أحضانها .. ما زالت تتخيل وجوده " وانطلقت إليه تستعجله قبل أن يبرد طعامه .. بحثت عنه في الغرفة فلم تجده . طرقت باب الحمام ولم يجبها .. بهتت عندما لم تجده . انطلقت كالمذعورة من مكان إلى آخر في البيت ولم تجده دون أن تفطن للباب الخارجي الذي كان مقفلاً من الداخل منذ نهارين !! " ص 43 .
· ( مابين الحب والحب ) .
للوهلة الأولى يتصور القارئ وهو يقرأ السطور الأولى من القصة بأن الكاتب يقصد بين ( الحُب و الحْب ) أي الوجد : معنىً للأولى .. وكوز الماء : معنىً للثانية . وقد جعل الربط بينهما كفكرة للقصة ، لكن ما أن نستغرق في القراءة نكتشف بأن الكاتب يقصد ( الحُب و الحُب ) والفرق ما بين الحب كوجد والحب الأبوي .
قصة لها طابع متميز لأسلوب لهُ بُعد وجداني .. كانت تستحق أن يختارها القاص عنواناً لمجموعته .
· ( عودة الصبي ) .
اتخذ القاص المونولوج كوسيلة لتحقيق تحليله النفسي لرجل ستيني يتذكر أيام طفولته الشقية .
· ( محمد أحمد ) .
كلنا يؤمن بأن الإبداع هو عمل يصنعهُ فرد واحد .. ومن هنا نجد التفرد بين قاص وقاص، بين روائي وروائي آخر ، بين شاعر وشاعر آخر .. وبين قصة وقصة أخرى .
( محمد أحمد ) . أكثر قصة أعجبتني من قصص المجموعة .. وكانت فعلاً قصة مدهشة ، رائعة صيغت بذكاء ( عنواناً وأسلوباً وفكرةً وهدفاً ومعنىً ) ومهما علّقت عليها ، فلن أمنحها حقها الكامل .. لذا سأصمت بكل إعجاب أمامها !
وكان القاص محمد الأحمد مبدعاً – بحق – في قصته ( محمد أحمد ) !!!
· ( السائس ) .
تعاطفت مع هذه القصة – بالذات – كثيراً .. لا أدري ! شعرتها حقيقية .. وكأنها حدثت مع القاص بكل تفاصيلها الدقيقة .
· ( الظل الموحش ) .
ماذا بقي له من والده سوى تمثال .. تمثال يعز عليه حتى بيعه " السؤال يكبر ، والألم يتفاقم بالأسئلة . الصمت يجمع بين الروح والتمثال . الأسئلة تضيع ، وتهاجمني رائحة كقوة الضوء المتسرب عليّ .. أحدق عبر النافذة .. تمتد خطوط بصري ، ولا تلتقي بالذي أريد . الصمت يتفاقم بيني وبين التمثال الذي بدأ بابتسامة صغيرة لم تكد تبين :
- أبي .. أجبني أرجوك ؟ " ص 85 .
ولا يأتيه جواب سوى صوت ارتطام !
· ( خيانة زمن ) .
قصة لها بعدها الفلسفي !
· ( حمار ) .
علينا أن نقرأ القصة كاملةً لنعرف لماذا سماها (حمار) ؟! وعندما نعرف.. نكاد أن ننفجر من الضحك.. قصة لها مغزى جميل كُتبت بأسلوب ساخر وجاد – بنفس الوقت – أشبه بما يُسمى بِـ( الكوميديا السوداء ) !
· ( كتاب الحندل وأبوابه ) .
حكاية غريبة عن رجل يكتشف قبواً في منزله الذي اشتراه ، فيقرر أن يدخله.. مفاجأة تقوده / تقودنا إلى مفاجأة وكأنها قصة من قصص ألف ليلة وليلة بكل غرائبها . ويقرر الرجل في النهاية أن يدوّن ما رآه في كتاب !
· ( دمعة بيكاسو ) .
هل يمكن أن تُقرأ اللوحة قراءة أدبية ؟ بالتأكيد: نعم !
· ( أحوال شخصية ) .
قصة ممتلئة بروائح الخيانة والغدر والوحشة والنفاق والكذب والحقد والكره .. وكل مسميات الخداع .. إنها دمعة حارقة نزلت من أجلِ امرأة لا تستحق دمعة رجل !
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ( مابين الحب والحب ) . مجموعة قصصية للقاص محمد الأحمد صادرة عن دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد / 2002 .
gulizaranwar@yahoo.com