هل مات أديب أبو نوار
كتابة: محمد الأحمد
تبقى الكلمة عاجزة أمام هذه المحنة، وباطلة أمام هذا الذي يحدث والذي لم يعد يهم أحدا، أبدا، إذ مات الصحافي البعقوبي الشاب (أديب أبو نوار1956-2007م)، فالكل صار اليوم مشغولا بالخلاص من هذا الدمار العظيم، الدمار الذي يجري في مدينة بعقوبة كالسيل العرم، ويجرف معه كل المحتويات الحضارية، ولا يترك منها حتى رمادها، وإذ مات فلان أو فلان، فما عاد في الأمر من أهمية قياسا للذي يجري، وخاصة من كان معنى بالكتابة والإبداع، فالرجل قد مات في سرير الإنعاش، وهو يكتب حساسية الألم، وتورم الدماغ، مات بين أحضان أهله، بعد أن أجريت له سبع محاولات إنقاذ لم تفلح، وما من كلمة تبقت من كلماته دون نشر، وبقيت معانيه معلقة ما بين البستان ودفتر كان يرافقه مدونا فيه مراثيه الواقعية، ورحلاته في المدن النائية، وأيضا قصائد لم تكتمل لأنها احتشدت بالشعر، وخانتها الكلمات.. أي الكلمات التي تبقت عالقة في الذهن، وكانت تأمل أن تخرج بحبه، ويتلوها لأصدقائه غاية في إعجابهم، وليس غاية في نشرها.. كتب المقال، وابدي مهارة، وأبدى شجاعة، وقد عَرَّفَتْ الزمان الغراء قرائها بأغلب ما قال، وما أشار، وما أراد كشفه.. مات وكأنه يقول: - بهرزُ الأسى لن يعود، والعمر لم يعد طويلا، فعلام صبحك يأخذني من فراشي مستباحا بوردك، وشايك؛ لعمري الأمنيات الهائلة لم تكد تلوح في الأفق كما كانت تلوح، والزهر المفترش جانبي طرقاتك كلها، لم يعد إلا متاريس بنادق، رب قفر من الدموع يجري إلى الهاوية.. لكنه لم يقل لي لأنني تركته يذهب إلى مشفاه وحيدا، وبقيت مذنبا تتناوبني الهواجس العاصفة، وحقا كنت أراه للمرة الأخيرة. كان الرجل يتخطى المدينة كل يوم دون خوف برغم الخوف، ويتخطى بآماله الكبار، لأجل يشاركني الشاي وحب الموسيقى، وحب الكلمة، ويشاركني بعض الكتب، التي تطبع أصابعنا المتعرقة بصماتنا على صفحاتها، كنت اقرأ وأنسى، او كان يقرا وينسى او كنت اقرأ ولا انسى، او هو يقرأ ولا ينسى، يذكرني بزهر الرمان البهيج، ومجّ السيجارة على مساحة بحيرة البجع، كان يشاركني حب (فيروز)، ولعنة انقطاع التيار الكهربي، كان يشاركني المدى، وخوف الورقة الفارغة.. كأني كنت أقول له: كيف لي أن أرضى بكل هذا البعد، وحيث لا بعد عنك، يا عمراً كيف انضوت عني ثيابك، يوم كبرنا، وتركتنا نحلم بانجاز كلمات تمنينا قولها، ولم نقلها، هل مضيت بي وحيدا دون أن ادري.. إلى أين؟ أحبتي رحلوا تباعا فرادى وجماعات، يا نوارُ أريكتي وصباح قهوة طريفة بالمشي من المحطة إلى شربتُ الزبيب، الأصدقاء من حولي ينفضون وأنت أولهم، كأني ككل يوم اشتري جريدتي وأمرُّ على الأصدقاء، وأولهم الشعراء، بلحظة كهذه تكدس حزنها وبقيتُ محتقنا بالبكاء، والبكاء لا يأتي، أرى دمعتي في وجه (ابو نوار)، أراها ما بين المكتبة والإشراق، أو بين طوله الفارع ورغبته بان يقطف لي برتقال معلقة ما بين النهر، والنهد النافر في كورنيش (ديالى).. الذي أضحى هو الآخر، فرغا من الماء، كأني كنت أقول للنهر دعني اقرأ وجهك، اقرأ أمانيك، فقد عرفتك كما عرفت نفسي، ويوم رايتك، نظرت في مرآتي.. كان أيضا يحب أن يقرا عن المكان، فكتب بذاكرة سردية كل مكان زاره، منحازا إلى الشعر، ومنحازا الى بقايا الأطلال وبقايا المجد.. لك مني أن أنال رضاك الرضا يا بهرز، يا سلافه اسقيها نعمة النسيان، وإصابتي في الهوى منك نعود رمحا على نار ما بين القلب والقلب مساحة من التوهان وزهر الآس.. كأني أواصل القول: مقامي فيك قمر على هدب يسحُّ بالقداح، ونهر من الأشجان يذيبني بغنائه العذب.. وود حييّا ان يقول: - كيف لي أن أنسى يا بعقوب النسوة الآتيات من فضاء البساتين، محملات بالأقفاص المليئة بالحاصل، و كيف لي ان احترق بالأشواق إليك، رب قصر أو بستان غافل، عن الهوى، فملوك الزمان صاروا بالمسدس، وليس بالمحبة: حين جاءوا كالنعاج، و رحلوا من زمان ليس له بدُّ. فأردت ان أقول، ولم اقل: بعقوبُ الزمان عابث بك اليوم، ام بعقوبُ الهوى عاصف بي اليوم، أبعقوب؟؛ سحرك حبري، ودمعك بستاني، فما حيلتي إن تكدس الماء آسناً في الأنهار، ولاستطعت أن أقول بان الأولاد الذين كانوا صغارا غرر بهم الجهاد لأجل يوم الحساب، وقوافل الأيام تنهب الزمان.. بأحقاد الأولين، وتستنزف الأحلام بالدم بدلا عن الياسمين.. وان أقول: صورنا تحركها حرارة الذنوب التي لم نرتكبها.. لكن الرعد: قلبي ببعقوب معلق، أو ببغداد مربوط، وما بينهما جسر من الموت.. فهذا يقتل لحساب مؤجل، وذلك يقطع الطريق الأمين؛ لم أصبح كل من نعرفهم يتركوننا لوحدنا، نقاس الوحدة، والوحدة تجعنا نموت بأكثر من الموت، وعلام افتح الجريدة يوميا ولم أكن قد صادفت الخبر.. بالامس وجدت نفسي افكر في ما آل اليه المرض، وهو لم يترك حبيبته (بهرز) مسقط راسه على الرغم من خرابها، ووجدته يقول بنفسه لي بان خبر موت (أديب أبو نوار) تناقلته الفضائيات اثر مرض عضال: بصوته الأجش الذي تحشرج بدخان السجائر المتواترة بالقلق الكثيف، بينما كنت أقول لنفسي غير مصدق: هل مات الشاعر الرجل الشفيف؟ كم كنت قريبا منه.. وأنا آخر من يعلم ولا املك قولا في حق ذلك الخبر.
الثلاثاء، 10 تموز، 2007
كتابة: محمد الأحمد
تبقى الكلمة عاجزة أمام هذه المحنة، وباطلة أمام هذا الذي يحدث والذي لم يعد يهم أحدا، أبدا، إذ مات الصحافي البعقوبي الشاب (أديب أبو نوار1956-2007م)، فالكل صار اليوم مشغولا بالخلاص من هذا الدمار العظيم، الدمار الذي يجري في مدينة بعقوبة كالسيل العرم، ويجرف معه كل المحتويات الحضارية، ولا يترك منها حتى رمادها، وإذ مات فلان أو فلان، فما عاد في الأمر من أهمية قياسا للذي يجري، وخاصة من كان معنى بالكتابة والإبداع، فالرجل قد مات في سرير الإنعاش، وهو يكتب حساسية الألم، وتورم الدماغ، مات بين أحضان أهله، بعد أن أجريت له سبع محاولات إنقاذ لم تفلح، وما من كلمة تبقت من كلماته دون نشر، وبقيت معانيه معلقة ما بين البستان ودفتر كان يرافقه مدونا فيه مراثيه الواقعية، ورحلاته في المدن النائية، وأيضا قصائد لم تكتمل لأنها احتشدت بالشعر، وخانتها الكلمات.. أي الكلمات التي تبقت عالقة في الذهن، وكانت تأمل أن تخرج بحبه، ويتلوها لأصدقائه غاية في إعجابهم، وليس غاية في نشرها.. كتب المقال، وابدي مهارة، وأبدى شجاعة، وقد عَرَّفَتْ الزمان الغراء قرائها بأغلب ما قال، وما أشار، وما أراد كشفه.. مات وكأنه يقول: - بهرزُ الأسى لن يعود، والعمر لم يعد طويلا، فعلام صبحك يأخذني من فراشي مستباحا بوردك، وشايك؛ لعمري الأمنيات الهائلة لم تكد تلوح في الأفق كما كانت تلوح، والزهر المفترش جانبي طرقاتك كلها، لم يعد إلا متاريس بنادق، رب قفر من الدموع يجري إلى الهاوية.. لكنه لم يقل لي لأنني تركته يذهب إلى مشفاه وحيدا، وبقيت مذنبا تتناوبني الهواجس العاصفة، وحقا كنت أراه للمرة الأخيرة. كان الرجل يتخطى المدينة كل يوم دون خوف برغم الخوف، ويتخطى بآماله الكبار، لأجل يشاركني الشاي وحب الموسيقى، وحب الكلمة، ويشاركني بعض الكتب، التي تطبع أصابعنا المتعرقة بصماتنا على صفحاتها، كنت اقرأ وأنسى، او كان يقرا وينسى او كنت اقرأ ولا انسى، او هو يقرأ ولا ينسى، يذكرني بزهر الرمان البهيج، ومجّ السيجارة على مساحة بحيرة البجع، كان يشاركني حب (فيروز)، ولعنة انقطاع التيار الكهربي، كان يشاركني المدى، وخوف الورقة الفارغة.. كأني كنت أقول له: كيف لي أن أرضى بكل هذا البعد، وحيث لا بعد عنك، يا عمراً كيف انضوت عني ثيابك، يوم كبرنا، وتركتنا نحلم بانجاز كلمات تمنينا قولها، ولم نقلها، هل مضيت بي وحيدا دون أن ادري.. إلى أين؟ أحبتي رحلوا تباعا فرادى وجماعات، يا نوارُ أريكتي وصباح قهوة طريفة بالمشي من المحطة إلى شربتُ الزبيب، الأصدقاء من حولي ينفضون وأنت أولهم، كأني ككل يوم اشتري جريدتي وأمرُّ على الأصدقاء، وأولهم الشعراء، بلحظة كهذه تكدس حزنها وبقيتُ محتقنا بالبكاء، والبكاء لا يأتي، أرى دمعتي في وجه (ابو نوار)، أراها ما بين المكتبة والإشراق، أو بين طوله الفارع ورغبته بان يقطف لي برتقال معلقة ما بين النهر، والنهد النافر في كورنيش (ديالى).. الذي أضحى هو الآخر، فرغا من الماء، كأني كنت أقول للنهر دعني اقرأ وجهك، اقرأ أمانيك، فقد عرفتك كما عرفت نفسي، ويوم رايتك، نظرت في مرآتي.. كان أيضا يحب أن يقرا عن المكان، فكتب بذاكرة سردية كل مكان زاره، منحازا إلى الشعر، ومنحازا الى بقايا الأطلال وبقايا المجد.. لك مني أن أنال رضاك الرضا يا بهرز، يا سلافه اسقيها نعمة النسيان، وإصابتي في الهوى منك نعود رمحا على نار ما بين القلب والقلب مساحة من التوهان وزهر الآس.. كأني أواصل القول: مقامي فيك قمر على هدب يسحُّ بالقداح، ونهر من الأشجان يذيبني بغنائه العذب.. وود حييّا ان يقول: - كيف لي أن أنسى يا بعقوب النسوة الآتيات من فضاء البساتين، محملات بالأقفاص المليئة بالحاصل، و كيف لي ان احترق بالأشواق إليك، رب قصر أو بستان غافل، عن الهوى، فملوك الزمان صاروا بالمسدس، وليس بالمحبة: حين جاءوا كالنعاج، و رحلوا من زمان ليس له بدُّ. فأردت ان أقول، ولم اقل: بعقوبُ الزمان عابث بك اليوم، ام بعقوبُ الهوى عاصف بي اليوم، أبعقوب؟؛ سحرك حبري، ودمعك بستاني، فما حيلتي إن تكدس الماء آسناً في الأنهار، ولاستطعت أن أقول بان الأولاد الذين كانوا صغارا غرر بهم الجهاد لأجل يوم الحساب، وقوافل الأيام تنهب الزمان.. بأحقاد الأولين، وتستنزف الأحلام بالدم بدلا عن الياسمين.. وان أقول: صورنا تحركها حرارة الذنوب التي لم نرتكبها.. لكن الرعد: قلبي ببعقوب معلق، أو ببغداد مربوط، وما بينهما جسر من الموت.. فهذا يقتل لحساب مؤجل، وذلك يقطع الطريق الأمين؛ لم أصبح كل من نعرفهم يتركوننا لوحدنا، نقاس الوحدة، والوحدة تجعنا نموت بأكثر من الموت، وعلام افتح الجريدة يوميا ولم أكن قد صادفت الخبر.. بالامس وجدت نفسي افكر في ما آل اليه المرض، وهو لم يترك حبيبته (بهرز) مسقط راسه على الرغم من خرابها، ووجدته يقول بنفسه لي بان خبر موت (أديب أبو نوار) تناقلته الفضائيات اثر مرض عضال: بصوته الأجش الذي تحشرج بدخان السجائر المتواترة بالقلق الكثيف، بينما كنت أقول لنفسي غير مصدق: هل مات الشاعر الرجل الشفيف؟ كم كنت قريبا منه.. وأنا آخر من يعلم ولا املك قولا في حق ذلك الخبر.
الثلاثاء، 10 تموز، 2007
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق