سعد محمد رحيم
أديب أبو نوار.. وداعاً
تحولت ذاكرة كل عراقي إلى مقبرة كبيرة موحشة.. لم نعد نتذكر أي حدث إلاّ ويكون طرفاً فيه واحد أو أكثر ممن هم موتى الآن. فلا شيء أسهل وأهون وأسرع من الموت في عراق اليوم، والأمس أيضاً.. يأتي الموت خفيفاً ويمضي خفيفاً كالهواء، أو تراه يسكن الهواء، يأخذ حصته بعدالة قاسية، بإفراط، من الجهات كلها والأماكن كلها والأعمار كلها، مبتدعاً في كل مرة طريقة مختلفة. ومخلفاً الأحياء في حالة من الذهول والضياع.
من الذاكرة:
بعبارة حذرة أعلمني صديق لي بموت أديب أبو نوار ، قال أنه قرأ الخبر في شريط أخبار قناة الشرقية.. وقفت واجماً، إذ كنا نتمشى حينها في سوق بلدتي، وللحظة تداعت في ذهني صور بعينها.. غير أن صورة واحدة استحوذت عليّ أكثر من غيرها.. أديب أبو نوار يسرع الخطى على رصيف خريسان في ليل بعقوبة وهو يحمل حقيبته المنتفخة بالأوراق والصحف والكتب، وماذا كان يملك غيرها؟ ليلحق بالجماعة ( أصدقاؤه ) في السفينة، والسفينة ليست سوى دار على نهر خريسان كان يتخذها رجل طيب من بعقوبة اسمه نوح مكتباً تجارياً في النهار وملتقى لأصدقائه، وجلّهم من المثقفين، في الليل، فسمي مكتبه هذا، عند هؤلاء، تحبباً بالسفينة. ولعبت السفينة دور مركز ثقافي غير رسمي، في زمن الحصار، ببعقوبة، إلى جانب مكتبة مؤيد سامي، ومكاتب ومحلات بعض الأدباء والمثقفين والتي غدت ملتقيات نُخب لتبادل الأخبار وقراءة النصوص ومناقشة القضايا المختلفة. ( وممن أذكر من رواد السفينة؛ كريم علو، المرحوم الدكتور قاسم، محمد، إبراهيم البهرزي، وآخرين. وكنت أزورهم أحياناً برفقة الفنان التشكيلي منير العبيدي أو الأديب الشهيد مؤيد سامي ). التقيت بأبي نوار للمرة الأولى في صيف العام 1992 وكان قد أنتخب تواً أميناً للشؤون الثقافية في اتحاد أدباء ديالى، يومها طلب مني تقديم أمسية في الاتحاد، وخيرني بين ثلاثة اقتراحات، أن أقرأ بعض نصوصي القصصية، أو أتحدث عن تجربتي في الكتابة، وكانت في حينها متواضعة لا تستحق الحديث عنها، أو أعرض كتاباً حديثاً، قلت له سأعرض كتاب ( البئر والعسل ) لحاتم الصكر الصادر في السنة ذاتها. ومنذ ذلك الوقت توطدت علاقتي به. سألته في أتعس سنوات الحصار، وكررت سؤالي عليه السنة الماضية حين بلغ تدهور الوضع الأمني ذروته في بعقوبة: ما الذي يمنعك من مغادرة العراق، أنت الذي لست متورطاً بزوجة وأولاد، ولا تملك أي شيء هنا، لا منصب، لا مال، لا وظيفة. قال؛ لا أستطيع. ثم هز رأسه وقال؛ أمي. وارتسمت على وجهه ابتسامة حزينة، ثم استطرد بعد صفنة صغيرة؛ لا أستطيع ترك بهرز. وضحك؛ وكيف أكون في مكان ليس فيه إبراهيم البهرزي. في أواخر التسعينيات، أعطاني مخطوطة رواية كتبها وقال لي اقرأها.. كانت الرواية على الرغم من بعض اعتراضاتي الفنية عليها ممتعة وصادقة، وهي لم تكن رواية بالمعنى التي تجعل منها عمل تخييل أولاً، وإنما سيرة ذاتية كتبت بضمير المتكلم، فيها مواقف من حياته ( طرائف ومصاعب وشجون عمل وكتابة وعلاقات صداقة وحب وجنس، الخ ) أما أكثر ما بقي عالقاً في ذهني من تلك الرواية هو قصة اعتقاله في منتصف الثمانينيات حيث أخبروه في وحدته العسكرية المرابطة في القاطع الجنوبي والحرب مع إيران حامية الوطيس، أنه مطلوب في مقر الاستخبارات العسكرية في الكاظمية.. وصل بغداد وهو في أشد حالات القلق والتوجس.. كانت الساعة هي الثامنة صباحاً لمّا دخل استعلامات الاستخبارات وسلّم كتابه الرسمي وأعلن عن اسمه، فطلب منه الموظف المعني أن يجلس قبل أن يبلّغ المسؤولين في الداخل، وبقي أديب ينتظر حتى الثالثة عصراً، عندها قال له موظف الاستعلامات أن الجماعة ربما نسوه واتصل مرة أخرى بهم .. تكلم الذي في الجانب الآخر من الخط مع أديب واعتذر منه بنبرة مهذبة، وقال إن كان بمقدوره أن يأتي غداً صباحاً.. خرج أديب وقد تلاشى بعض خوفه وقلقه، لكن ما جرى في اليوم الثاني هو بالضبط ما جرى في اليوم الأول، اتصال وانتظار وطلب مجيء في اليوم التالي، فتضاعف قلقه. وكذلك كان الأمر في الأيام الأربعة أو الخمسة التالية.. وظل أديب يذهب إلى نادي اتحاد الأدباء بعد مغادرته الاستعلامات ليقضي أمسيته وهو مملوء بالرعب.. في اليوم السابع قيل له بعبارة مشجعة أن يدلف إلى الداخل، وحالما تخطى الباب كان في انتظاره، هناك، عدد من الأشخاص، عصبوا عينيه وانهالوا عليه بالضرب.، قبل أن يودعوه في زنزانة مكث فيها ثمانية أشهر..هذا جزء ( حدث في الواقع فعلاً ) مما كتب في روايته التي نسيت عنوانها. ولا أدري إن كانت مخطوطتها موجودة حتى هذه الساعة.
موقف آخر:
ضييف أبو نوار في أواخر ربيع 1995 الشاعر خزعل الماجدي، لا في حديقة اتحاد الأدباء في السراي القديم ببعقوبة وإنما في بستان أهله في بهرز، أستذكر هذه الواقعة لأنها تحتشد ببعض المفارقات.. جاءنا خزعل من بغداد بعد الظهر، وقبيل الغروب رحنا نسير في مجموعة من سبعة أو ثمانية أشخاص، على الرصيف المحاذي للنهر قبل أن نستأجر سيارة إلى بهرز. وخزعل يحكي عن المثقفين العراقيين في الخارج الذين لا يعرفون ماذا يحصل في العراق الآن.. في هذه الأثناء أحاط بنا عدد من الانضباطية وطلبوا هوياتنا ( بطاقاتنا ) وهم يتفرسون في وجوهنا بارتياب.. حين ابتعدوا صاح خزعل؛ هذه صورة واحدة من آلاف لا يعرف عنها مثقف الخارج شيئاً. في البستان الصغير أستل خزعل دفتراً من حقيبته وسألنا إن كنا مستعدين لسماع قصيدته ( حية ودرج ) الطويلة؟ قلنا؛ نحن هنا لنستمع إلى جديده.. في الظلام الهابط، والهواء يقبل عذباً بارداً من جهة نهر ديالى شرع خزعل يقرأ.. استغرقت القراءة أربع أو خمس ساعات.. لم تكن قراءة مستمرة، بل كانت تُقطع بتعليقات وثرثرات وحكايات ونكات وضحكات ومماحكات وتناول شراب وطعام وبرتقال وليمون حامض وقزقزة حب عباد الشمس، وفي منتصف الجلسة دخل علينا إبراهيم البهرزي.. وأخيراً حين انتهت قراءة القصيدة قال أديب أبو نوار؛ ما فائدة الشعر، أي شعر، حتى الجيد منه إن لم يكن يغير أي شيء في هذا الزمن اللعين.. وأطلق عبارات ساخرة.. كان هذا استدراكاً استفزازياً سلب بعض نشوتنا. وحينها قلت: يا جماعة تأخرنا. كانت الثانية بعد منتصف الليل، وليست ثمة سيارات قطعاً في هذه الساعة. كان هناك اقتراح أن ننام في البستان، رفض بعضنا ( أنا أحدهم ) بحجة أن عوائلنا ستقلق علينا. وخرجنا جميعاً تاركين أبا نوار وحده في البستان، أو هو غفا قبل خروجنا.. من كان هناك؟ بحسب ما أتذكر( صلاح زنكنة، عمر الدليمي، أمير الحلاج، علي فرحان، بشار صبحي، فاضل عبد حامي، وربما مشتاق عبد الهادي وفراس الشيباني أيضاً ). إبراهيم اصطحب خزعل إلى بيته أما نحن البقية فرحنا نمشي في الشارع الفارغ، حتى إذا قطعنا بضع مئات من الأمتار توقفت ( يا للمصادفة السعيدة ) سيارة تاكسي، ولا أدري ما الذي أدخل عمر الدليمي في مشادة غير مبررة مع سائقها الذي سارع ليشتكينا لحرس بيت المحافظ القريب فوقف هؤلاء في منتصف الطريق في انتظارنا، أو هكذا خيل لنا، فانعطفت مع آخرين إلى طريق زراعي محاذاة مبزل مخنوق بأعواد القصب.. قلت لهم؛ لست مستعداً لقضاء الليل موقوفاً في مركز للشرطة، فأنا مدرس ولا أريد أن يشاع الخبر غداً بين طلبتي، ولاسيما أن مخيلاتهم الخبيثة ستلفق قصصاً عجيبة حول هذا. هكذا تشتتنا، وشخصياً لم أصل بيتي إلاّ في الرابعة فجراً.
أبو نوار والبهرزي:
بين إبراهيم وأديب علاقة صداقة غير اعتيادية، تجذرت بمرور الأزمان، وتلاحق النوائب، فقد ظلا صديقين ندّين، لدودين، يجمعهما حب الانتماء إلى المكان نفسه، والهيام بالشعر وقراءة الكتب، غير أنهما كانا يختلفان في أشياء كثيرة، لعل منها الرؤية السياسية، وأيضاً طبيعة الشخصية، والعلاقات الممتدة مع الآخرين، ووجهة نظر أحدهما بإبداع الآخر. وهذا لا يعني انتفاء الإعجاب بينهما.. كانا يتخاصمان في الصباح ويجلسان معاً للسهر في مساء اليوم ذاته، أو يفترقان عند منتصف الليل على خلاف هائل ليعودا في نهار اليوم التالي معاً وكأن شيئاً لم يكن. وما كان يشكو منه أصدقاؤهما أنهما كانا في خلواتهما المغرقة بالشعر والثرثرات والتهكمات يفضحان أسرار الآخرين بينهما، وأظن أسرارهما أيضاً.. لم يكن أحدهما يحفظ أي سر عن صاحبه. كانا أليفين ومتناقضين في الوقت نفسه، وتناقضهما كان يجذبهما إلى بعض أكثر مما يفرقهما.. كانا ضروريين لبعضهما، لا غنى لأحد هما عن الآخر. بعد سقوط نظام صدام حسين وواقعة احتلال العراق،غرق أديب في بحران القنوط. قال أنه ليس متفائلاً.. وعمله مراسلاً صحافياً جعله قريباً جداً من الأحداث، وعلى تماس مباشر معها.. كان في منطقة ساخنة تشهد عمليات قتل يومي، تأتيه الأخبار طازجة من مصادر خاصة فيعبّرها إلى قناة الشرقية.. قلت له؛ لماذا هذه الأخبار كلها، لماذا لا تكتفي ببعضها، إنها تصيب المرء بالدوار والإحباط.. قال؛ أليست مهمتنا أن نقول الحقيقة. قلت؛ لا أدري، أحياناً الإفراط في قول الحقيقة يدفعنا إلى اليأس. ويبدو أن تلك الأخبار المملوءة بمفردات ( العبوات الناسفة والسيارات المفخخة وهدم المنازل والقتل الطائفي وغير الطائفي والاعتقالات والمداهمات ودوريات الاحتلال وإغلاق الطرق والتهديدات والفساد الإداري والخطف والسلب والنهب، الخ ) كانت تأكل من جرفه كما يقول التعبير الدارج. وذات مرة، وكنت حاضراً معه في مكتب كريم الدهلكي لتوزيع الصحف، نقل خبراً عن اغتيال مدني.. سأله الشخص الذي يدون الأخبار في الشرقية لماذا أغتيل.. قال؛ والله أستحي أن أقول لك لماذا.. وحين ألح الشخص قال؛ لأنه من الطائفة الفلانية. أصيب أديب بانتكاسة أولى بعد أشهر من زلزال 9/4/2003، وأجريت له عملية في الرأس، الرأس الذي هو رأسمال المبدع الأول والأخير. ولم تمر سنة أخرى حتى كانت الانتكاسة الثانية، غير أن الثالثة لم تهمله.. يقول إبراهيم البهرزي في رسالة تقطر أسى ولوعة ويأساً، تسلمتها منه قبل أيام، أنه كان بصدد زيارة أديب عصراً.. قيل له أنه استعاد الوعي بعد إجراء العملية الجديدة في مستشفى السليمانية وأنه يرد بالإشارات.. لكنه ( أي البهرزي ) عرف من أخيه أن أديباً فارق الحياة وأنهم دفنوه في مقبرة بهرز قبل ساعات.
الممثل والصحافي والشاعر:
عُرف أديب، في مجتمع مدينة بعقوبة، في السبعينيات، ممثلاً مسرحياً، عضواً في فرقة مسرح بعقوبة، وأدى أدواراً عديدة في ضمن نشاطاتها، لكن الشعر والصحافة أخذاه من المسرح قبل أن يورطه صديقه الكاتب والفنان المسرحي صباح الأنباري، مرة أخرى، في تمثيل الدور الرئيس في مسرحيته ( الصرخة ) في العام 1994. وقد كان أداء أديب فيها معقولاً. برع أديب في كتابة التحقيق الصحافي، وكانت ريبورتاجاته عن المدن والأمكنة التي شغف بها من أجمل ما كتب. أذكر ما كتب عن بهرز ونهري ديالى وخريسان وجلولاء والسعدية وشارع الرشيد وساحة الميدان وكبيسة وراوة وأربيل وجبال كردستان ومدن وأمكنة عراقية أخرى كثيرة. كان يكتب برؤى شاعر وحميمية عاشق، كان ديدنه شعرية المكان، سحره وألقه ونوره الخفي، وتاريخه كما طبع على سحنات البشر وقلوبهم. أما شاعراً فقد عانى من شبه الإهمال على الرغم من بعض مسؤوليته عن هذا، فأديب الشاعر كان يستحق اهتماماً نقدياً أكبر، وكان يجب أن تصدر له أكثر من مجموعة شعرية بحلة أنيقة وليس بالشكل البائس الذي خرجت به مجموعته الوحيدة ( المدهش من أحزان العندليب ) في طبعة محدودة متواضعة، في ضمن إصدارات (ثقافة ضد الحصار ) في العام 2001... كتب أديب الشعر ونشره مبكراً، فأولى قصائده رأت النور في السبعينيات، إلا أنه باعتقادي، رؤيةً وحساسية وأسلوباً، ينتمي إلى الجيل الثمانيني. وقد نشر عشرات القصائد، هنا وهناك، وأظن أنه يستحق بعض الجهد لجمعها ونشرها في مجموعة أو أكثر، ومَن غير إبراهيم البهرزي أهل لهذا؟. موت آخر..صديق آخر يرحل.. وداع آخر.. تتزاحم الصور في الذاكرة.. صور أصدقاء لنا بقوا حتى اللحظة الأخيرة يحلمون بعراق أحلى. أي حلم كان ذاك الذي يخفق في أعطاف أديب غير أن يعشق بحرية ويكتب قصيدته في الهواء الطلق؟. يقول في إحدى قصائده "أريد أن أشكل القصيدة بماس الدموع لأترك مجالاً للضوء في لغتي". بم كان يحلم أديب وماذا كان يريد غير درب آمن من بهرز إلى مقر اتحاد الأدباء في السراي القديم ببعقوبة ليلتقي أقرانه الأدباء، وآخر إلى مكتب كريم الدهلكي أو بلاسم الضاحي أو ورشة حسين التميمي أو السفينة العائدة للسيد نوح أو إلى البستان ليتجاذب أطراف الحديث مع شقيق روحه إبراهيم البهرزي، ومن غير أن ينغص أحد عليهما سهرتهما، بخمر الشعر.
ياااااا لشساعة وبُعدِ، وأكاد أقول استحالة، هذا الحلم!!.
أديب أبو نوار.. وداعاً
تحولت ذاكرة كل عراقي إلى مقبرة كبيرة موحشة.. لم نعد نتذكر أي حدث إلاّ ويكون طرفاً فيه واحد أو أكثر ممن هم موتى الآن. فلا شيء أسهل وأهون وأسرع من الموت في عراق اليوم، والأمس أيضاً.. يأتي الموت خفيفاً ويمضي خفيفاً كالهواء، أو تراه يسكن الهواء، يأخذ حصته بعدالة قاسية، بإفراط، من الجهات كلها والأماكن كلها والأعمار كلها، مبتدعاً في كل مرة طريقة مختلفة. ومخلفاً الأحياء في حالة من الذهول والضياع.
من الذاكرة:
بعبارة حذرة أعلمني صديق لي بموت أديب أبو نوار ، قال أنه قرأ الخبر في شريط أخبار قناة الشرقية.. وقفت واجماً، إذ كنا نتمشى حينها في سوق بلدتي، وللحظة تداعت في ذهني صور بعينها.. غير أن صورة واحدة استحوذت عليّ أكثر من غيرها.. أديب أبو نوار يسرع الخطى على رصيف خريسان في ليل بعقوبة وهو يحمل حقيبته المنتفخة بالأوراق والصحف والكتب، وماذا كان يملك غيرها؟ ليلحق بالجماعة ( أصدقاؤه ) في السفينة، والسفينة ليست سوى دار على نهر خريسان كان يتخذها رجل طيب من بعقوبة اسمه نوح مكتباً تجارياً في النهار وملتقى لأصدقائه، وجلّهم من المثقفين، في الليل، فسمي مكتبه هذا، عند هؤلاء، تحبباً بالسفينة. ولعبت السفينة دور مركز ثقافي غير رسمي، في زمن الحصار، ببعقوبة، إلى جانب مكتبة مؤيد سامي، ومكاتب ومحلات بعض الأدباء والمثقفين والتي غدت ملتقيات نُخب لتبادل الأخبار وقراءة النصوص ومناقشة القضايا المختلفة. ( وممن أذكر من رواد السفينة؛ كريم علو، المرحوم الدكتور قاسم، محمد، إبراهيم البهرزي، وآخرين. وكنت أزورهم أحياناً برفقة الفنان التشكيلي منير العبيدي أو الأديب الشهيد مؤيد سامي ). التقيت بأبي نوار للمرة الأولى في صيف العام 1992 وكان قد أنتخب تواً أميناً للشؤون الثقافية في اتحاد أدباء ديالى، يومها طلب مني تقديم أمسية في الاتحاد، وخيرني بين ثلاثة اقتراحات، أن أقرأ بعض نصوصي القصصية، أو أتحدث عن تجربتي في الكتابة، وكانت في حينها متواضعة لا تستحق الحديث عنها، أو أعرض كتاباً حديثاً، قلت له سأعرض كتاب ( البئر والعسل ) لحاتم الصكر الصادر في السنة ذاتها. ومنذ ذلك الوقت توطدت علاقتي به. سألته في أتعس سنوات الحصار، وكررت سؤالي عليه السنة الماضية حين بلغ تدهور الوضع الأمني ذروته في بعقوبة: ما الذي يمنعك من مغادرة العراق، أنت الذي لست متورطاً بزوجة وأولاد، ولا تملك أي شيء هنا، لا منصب، لا مال، لا وظيفة. قال؛ لا أستطيع. ثم هز رأسه وقال؛ أمي. وارتسمت على وجهه ابتسامة حزينة، ثم استطرد بعد صفنة صغيرة؛ لا أستطيع ترك بهرز. وضحك؛ وكيف أكون في مكان ليس فيه إبراهيم البهرزي. في أواخر التسعينيات، أعطاني مخطوطة رواية كتبها وقال لي اقرأها.. كانت الرواية على الرغم من بعض اعتراضاتي الفنية عليها ممتعة وصادقة، وهي لم تكن رواية بالمعنى التي تجعل منها عمل تخييل أولاً، وإنما سيرة ذاتية كتبت بضمير المتكلم، فيها مواقف من حياته ( طرائف ومصاعب وشجون عمل وكتابة وعلاقات صداقة وحب وجنس، الخ ) أما أكثر ما بقي عالقاً في ذهني من تلك الرواية هو قصة اعتقاله في منتصف الثمانينيات حيث أخبروه في وحدته العسكرية المرابطة في القاطع الجنوبي والحرب مع إيران حامية الوطيس، أنه مطلوب في مقر الاستخبارات العسكرية في الكاظمية.. وصل بغداد وهو في أشد حالات القلق والتوجس.. كانت الساعة هي الثامنة صباحاً لمّا دخل استعلامات الاستخبارات وسلّم كتابه الرسمي وأعلن عن اسمه، فطلب منه الموظف المعني أن يجلس قبل أن يبلّغ المسؤولين في الداخل، وبقي أديب ينتظر حتى الثالثة عصراً، عندها قال له موظف الاستعلامات أن الجماعة ربما نسوه واتصل مرة أخرى بهم .. تكلم الذي في الجانب الآخر من الخط مع أديب واعتذر منه بنبرة مهذبة، وقال إن كان بمقدوره أن يأتي غداً صباحاً.. خرج أديب وقد تلاشى بعض خوفه وقلقه، لكن ما جرى في اليوم الثاني هو بالضبط ما جرى في اليوم الأول، اتصال وانتظار وطلب مجيء في اليوم التالي، فتضاعف قلقه. وكذلك كان الأمر في الأيام الأربعة أو الخمسة التالية.. وظل أديب يذهب إلى نادي اتحاد الأدباء بعد مغادرته الاستعلامات ليقضي أمسيته وهو مملوء بالرعب.. في اليوم السابع قيل له بعبارة مشجعة أن يدلف إلى الداخل، وحالما تخطى الباب كان في انتظاره، هناك، عدد من الأشخاص، عصبوا عينيه وانهالوا عليه بالضرب.، قبل أن يودعوه في زنزانة مكث فيها ثمانية أشهر..هذا جزء ( حدث في الواقع فعلاً ) مما كتب في روايته التي نسيت عنوانها. ولا أدري إن كانت مخطوطتها موجودة حتى هذه الساعة.
موقف آخر:
ضييف أبو نوار في أواخر ربيع 1995 الشاعر خزعل الماجدي، لا في حديقة اتحاد الأدباء في السراي القديم ببعقوبة وإنما في بستان أهله في بهرز، أستذكر هذه الواقعة لأنها تحتشد ببعض المفارقات.. جاءنا خزعل من بغداد بعد الظهر، وقبيل الغروب رحنا نسير في مجموعة من سبعة أو ثمانية أشخاص، على الرصيف المحاذي للنهر قبل أن نستأجر سيارة إلى بهرز. وخزعل يحكي عن المثقفين العراقيين في الخارج الذين لا يعرفون ماذا يحصل في العراق الآن.. في هذه الأثناء أحاط بنا عدد من الانضباطية وطلبوا هوياتنا ( بطاقاتنا ) وهم يتفرسون في وجوهنا بارتياب.. حين ابتعدوا صاح خزعل؛ هذه صورة واحدة من آلاف لا يعرف عنها مثقف الخارج شيئاً. في البستان الصغير أستل خزعل دفتراً من حقيبته وسألنا إن كنا مستعدين لسماع قصيدته ( حية ودرج ) الطويلة؟ قلنا؛ نحن هنا لنستمع إلى جديده.. في الظلام الهابط، والهواء يقبل عذباً بارداً من جهة نهر ديالى شرع خزعل يقرأ.. استغرقت القراءة أربع أو خمس ساعات.. لم تكن قراءة مستمرة، بل كانت تُقطع بتعليقات وثرثرات وحكايات ونكات وضحكات ومماحكات وتناول شراب وطعام وبرتقال وليمون حامض وقزقزة حب عباد الشمس، وفي منتصف الجلسة دخل علينا إبراهيم البهرزي.. وأخيراً حين انتهت قراءة القصيدة قال أديب أبو نوار؛ ما فائدة الشعر، أي شعر، حتى الجيد منه إن لم يكن يغير أي شيء في هذا الزمن اللعين.. وأطلق عبارات ساخرة.. كان هذا استدراكاً استفزازياً سلب بعض نشوتنا. وحينها قلت: يا جماعة تأخرنا. كانت الثانية بعد منتصف الليل، وليست ثمة سيارات قطعاً في هذه الساعة. كان هناك اقتراح أن ننام في البستان، رفض بعضنا ( أنا أحدهم ) بحجة أن عوائلنا ستقلق علينا. وخرجنا جميعاً تاركين أبا نوار وحده في البستان، أو هو غفا قبل خروجنا.. من كان هناك؟ بحسب ما أتذكر( صلاح زنكنة، عمر الدليمي، أمير الحلاج، علي فرحان، بشار صبحي، فاضل عبد حامي، وربما مشتاق عبد الهادي وفراس الشيباني أيضاً ). إبراهيم اصطحب خزعل إلى بيته أما نحن البقية فرحنا نمشي في الشارع الفارغ، حتى إذا قطعنا بضع مئات من الأمتار توقفت ( يا للمصادفة السعيدة ) سيارة تاكسي، ولا أدري ما الذي أدخل عمر الدليمي في مشادة غير مبررة مع سائقها الذي سارع ليشتكينا لحرس بيت المحافظ القريب فوقف هؤلاء في منتصف الطريق في انتظارنا، أو هكذا خيل لنا، فانعطفت مع آخرين إلى طريق زراعي محاذاة مبزل مخنوق بأعواد القصب.. قلت لهم؛ لست مستعداً لقضاء الليل موقوفاً في مركز للشرطة، فأنا مدرس ولا أريد أن يشاع الخبر غداً بين طلبتي، ولاسيما أن مخيلاتهم الخبيثة ستلفق قصصاً عجيبة حول هذا. هكذا تشتتنا، وشخصياً لم أصل بيتي إلاّ في الرابعة فجراً.
أبو نوار والبهرزي:
بين إبراهيم وأديب علاقة صداقة غير اعتيادية، تجذرت بمرور الأزمان، وتلاحق النوائب، فقد ظلا صديقين ندّين، لدودين، يجمعهما حب الانتماء إلى المكان نفسه، والهيام بالشعر وقراءة الكتب، غير أنهما كانا يختلفان في أشياء كثيرة، لعل منها الرؤية السياسية، وأيضاً طبيعة الشخصية، والعلاقات الممتدة مع الآخرين، ووجهة نظر أحدهما بإبداع الآخر. وهذا لا يعني انتفاء الإعجاب بينهما.. كانا يتخاصمان في الصباح ويجلسان معاً للسهر في مساء اليوم ذاته، أو يفترقان عند منتصف الليل على خلاف هائل ليعودا في نهار اليوم التالي معاً وكأن شيئاً لم يكن. وما كان يشكو منه أصدقاؤهما أنهما كانا في خلواتهما المغرقة بالشعر والثرثرات والتهكمات يفضحان أسرار الآخرين بينهما، وأظن أسرارهما أيضاً.. لم يكن أحدهما يحفظ أي سر عن صاحبه. كانا أليفين ومتناقضين في الوقت نفسه، وتناقضهما كان يجذبهما إلى بعض أكثر مما يفرقهما.. كانا ضروريين لبعضهما، لا غنى لأحد هما عن الآخر. بعد سقوط نظام صدام حسين وواقعة احتلال العراق،غرق أديب في بحران القنوط. قال أنه ليس متفائلاً.. وعمله مراسلاً صحافياً جعله قريباً جداً من الأحداث، وعلى تماس مباشر معها.. كان في منطقة ساخنة تشهد عمليات قتل يومي، تأتيه الأخبار طازجة من مصادر خاصة فيعبّرها إلى قناة الشرقية.. قلت له؛ لماذا هذه الأخبار كلها، لماذا لا تكتفي ببعضها، إنها تصيب المرء بالدوار والإحباط.. قال؛ أليست مهمتنا أن نقول الحقيقة. قلت؛ لا أدري، أحياناً الإفراط في قول الحقيقة يدفعنا إلى اليأس. ويبدو أن تلك الأخبار المملوءة بمفردات ( العبوات الناسفة والسيارات المفخخة وهدم المنازل والقتل الطائفي وغير الطائفي والاعتقالات والمداهمات ودوريات الاحتلال وإغلاق الطرق والتهديدات والفساد الإداري والخطف والسلب والنهب، الخ ) كانت تأكل من جرفه كما يقول التعبير الدارج. وذات مرة، وكنت حاضراً معه في مكتب كريم الدهلكي لتوزيع الصحف، نقل خبراً عن اغتيال مدني.. سأله الشخص الذي يدون الأخبار في الشرقية لماذا أغتيل.. قال؛ والله أستحي أن أقول لك لماذا.. وحين ألح الشخص قال؛ لأنه من الطائفة الفلانية. أصيب أديب بانتكاسة أولى بعد أشهر من زلزال 9/4/2003، وأجريت له عملية في الرأس، الرأس الذي هو رأسمال المبدع الأول والأخير. ولم تمر سنة أخرى حتى كانت الانتكاسة الثانية، غير أن الثالثة لم تهمله.. يقول إبراهيم البهرزي في رسالة تقطر أسى ولوعة ويأساً، تسلمتها منه قبل أيام، أنه كان بصدد زيارة أديب عصراً.. قيل له أنه استعاد الوعي بعد إجراء العملية الجديدة في مستشفى السليمانية وأنه يرد بالإشارات.. لكنه ( أي البهرزي ) عرف من أخيه أن أديباً فارق الحياة وأنهم دفنوه في مقبرة بهرز قبل ساعات.
الممثل والصحافي والشاعر:
عُرف أديب، في مجتمع مدينة بعقوبة، في السبعينيات، ممثلاً مسرحياً، عضواً في فرقة مسرح بعقوبة، وأدى أدواراً عديدة في ضمن نشاطاتها، لكن الشعر والصحافة أخذاه من المسرح قبل أن يورطه صديقه الكاتب والفنان المسرحي صباح الأنباري، مرة أخرى، في تمثيل الدور الرئيس في مسرحيته ( الصرخة ) في العام 1994. وقد كان أداء أديب فيها معقولاً. برع أديب في كتابة التحقيق الصحافي، وكانت ريبورتاجاته عن المدن والأمكنة التي شغف بها من أجمل ما كتب. أذكر ما كتب عن بهرز ونهري ديالى وخريسان وجلولاء والسعدية وشارع الرشيد وساحة الميدان وكبيسة وراوة وأربيل وجبال كردستان ومدن وأمكنة عراقية أخرى كثيرة. كان يكتب برؤى شاعر وحميمية عاشق، كان ديدنه شعرية المكان، سحره وألقه ونوره الخفي، وتاريخه كما طبع على سحنات البشر وقلوبهم. أما شاعراً فقد عانى من شبه الإهمال على الرغم من بعض مسؤوليته عن هذا، فأديب الشاعر كان يستحق اهتماماً نقدياً أكبر، وكان يجب أن تصدر له أكثر من مجموعة شعرية بحلة أنيقة وليس بالشكل البائس الذي خرجت به مجموعته الوحيدة ( المدهش من أحزان العندليب ) في طبعة محدودة متواضعة، في ضمن إصدارات (ثقافة ضد الحصار ) في العام 2001... كتب أديب الشعر ونشره مبكراً، فأولى قصائده رأت النور في السبعينيات، إلا أنه باعتقادي، رؤيةً وحساسية وأسلوباً، ينتمي إلى الجيل الثمانيني. وقد نشر عشرات القصائد، هنا وهناك، وأظن أنه يستحق بعض الجهد لجمعها ونشرها في مجموعة أو أكثر، ومَن غير إبراهيم البهرزي أهل لهذا؟. موت آخر..صديق آخر يرحل.. وداع آخر.. تتزاحم الصور في الذاكرة.. صور أصدقاء لنا بقوا حتى اللحظة الأخيرة يحلمون بعراق أحلى. أي حلم كان ذاك الذي يخفق في أعطاف أديب غير أن يعشق بحرية ويكتب قصيدته في الهواء الطلق؟. يقول في إحدى قصائده "أريد أن أشكل القصيدة بماس الدموع لأترك مجالاً للضوء في لغتي". بم كان يحلم أديب وماذا كان يريد غير درب آمن من بهرز إلى مقر اتحاد الأدباء في السراي القديم ببعقوبة ليلتقي أقرانه الأدباء، وآخر إلى مكتب كريم الدهلكي أو بلاسم الضاحي أو ورشة حسين التميمي أو السفينة العائدة للسيد نوح أو إلى البستان ليتجاذب أطراف الحديث مع شقيق روحه إبراهيم البهرزي، ومن غير أن ينغص أحد عليهما سهرتهما، بخمر الشعر.
ياااااا لشساعة وبُعدِ، وأكاد أقول استحالة، هذا الحلم!!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق