أديب أبو نوّار: وداعا
فاضل عبود التميمي
برحيل الشاعر(أديب أبو نوار-1956/2007-) يكون الأدب العراقي الحديث قد فقد أديب الأمكنة، والبساتين الخضر، والمساحات الحافلة بالمحبة، والحياة، وشاعر الأحزان القزحية... ولأنه ولد في مدينة(بهرز) فقد اخذ منها نسغ المحبة، وسلطة الاخضرار، وغضاضة الماء، وسلاسة المودّة، ونقاء الهواء... من يعرف أديب أبو نوّار، واسمه الحقيقي (أديب شياع البكري العزاوي) يدرك تماما سرَّ تعلقه بالأرض التي ولد فيها، ولزومه الدائم أنهارها، ومنحدراتها بعد أن أحصى بخطواته المتعبة أزقتها، وأسطح المنازل فيها، ودكاكينها المشرعة على واجهات النهر، وسامقات النخل.
لم يكن أديب أبو نوار إنسانا طارئا على البساتين، ونجوم السماء، وزرقة الماء... كان عاشقا نهما في تحولاته المكانية يؤاخي بين بستان ونجمة، بين افياء ونسمة... وكان كلما أدرك أن للبساتين رائحة تكبر مع سر الحياة يمضي بتساوق عجيب مع حيطانها، وأكوام العوسج المغروس على صهواتها... كان يعرف من زاوية القرب منها أنه راحل لا محال ولهذا مارس العشق فيها رجما بالخيال مبدعا أجمل(التحقيقات) فيها، وعنها فكتاباته عن البساتين، والأرض، والوهدان، والأزقة، والمنحنيات، وأخلاقيات الناس تمثل نمطا من الاستحضار الشعري للمكان، وغناء يماميا لفضاءات الزمان... ولم يكتفي بالكتابة وحدها، فقد سجلت كاميرته الخاصة حوارا دافئا مع بوابات البساتين، ونواطيرها، وحيواتها المترامية، لقد حاور عبر عدسة تلك الآلة الصماء براءات القرى المتواشجة مع خرير الماء يوم كانت قرى مترعة بالبهاء، والمسرات العذبة، ثم زاد من تألق مدوناته الفوتغرافية حين عمد إلى نشرها مقرونة بتعليقاته المترفة.
لقد كان أديب أبو نوار مهووسا بالأمكنة، قانعا بمحبتها التي لا تزول فهو في كل نصوصه ينزع نحو المكان، يأخذ من تضاريسه تفاصيل كتابة تشعل هوس المسرات، وتخلطه بأحزان مؤطرة بالحب والحنين... هكذا وجدت أديبا: عينين صغيرتين تخترقان كتل الأرض، وصراخ الجغرافيا، ومجاهل الكثبان بحثا عن انساق الحياة القابعة في مكان لا يستثير أحدا، ولا يشكل ملمحا عند كثيرين، فالحياة التي يمسك بها أديب في تل اجرد، وقنطرة مهدمة، ونخلة بلا رأس، وكلب يعلن عن وثوبه في بوابة بستان، هي نفسها التي يعلن عنها في فضاء البساتين: فراديس الله على الأرض كما كان يسميها.
والمكان في كتابات (أديب أبو نوار) الشعرية عالم يمور بالحركة والألوان والنقاء الإنساني، وهو لا ينفصل قط عن عالم أديب نفسه، حيز جمالي يتحرك بلا منغصات، أو مكائد مفخخة ، يقتفي اثر الجمال، والدهشة وصولا إلى تأثيث(نص) تتشكل فيه حياة أليفة تنمو على عتباتها رغبات البوح، وكسر الألم، وفك مغاليق العزلة بمعناها الخانق.
ترك الفقيد قصائد كثيرة لم تنشر، وأخرى نشرت ولم يجمعها كتاب، فضلا عن رواية مخطوطة لا ادري أين الآن هي... ناهيك عن عشرات التحقيقات الخاصة بالأمكنة العراقية التي زارها في الانبار، والنجف، وبغداد، وكردستان وهي لوحدها تشكل مرجعا فريدا لجغرافية الأمكنة الآهلة بالشوق والمحبة، وله مجموعة شعرية واحدة صدرت عن دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد 2001 عنوانها(المدهش من أحزان العندليب) كرس فيها ظاهرة الحزن في أعلى طبقاتها النبيلة، ترى أي حزن كان يعتلي ذلك الوالد البهرزي النحيل؟.
تنهض مجموعته على دال شعري ينبثق منه مدلول شعري يستّمد نسقه الأول من مخيـّلة الشاعر بدءاً من عنوان المجموعة الذي تفضي القراءة الدقيقة لمحموله الفكري إلى نتاج أحزان مركبة تتقدمها (( الدهشة )) بوصفها حيرة تتملك الشاعر لتشكل من آلامه نمطاً أعلى يميز مكابداته وهو يلج عتبات القرن الحادي والعشرين … فإذا ما غادرت العنوان تلقفتك أحزان أخرى ممهورة بوجع الشاعر وهو يتذكر أصدقاء اليوم والأمس ممن كان الحزن وسيبقى يتبوأ مساحات واسعة في سيمياء لغتهم : الشاعر إبراهيم البهرزي ،وعبد الأمير عبد الكاظم ، والشهيد محمود الزيدي و … و .. :
ترى أيمكن للحزن أن يكون عالماً شعريّـاً تكتمل فيه مدونات الشاعر وأحلامه ؟ .. ذلك ممكن فهو مدلول شعري تلبس (( الشعرية )) مذ أدرك الإنسان الأول أن الشعر قرين الوجود ، ولهذا تشابكت لغته مع كلّ لغات الشعر ، ومدارسه ، واتجاهاته ، وتياراته إذ ما من شعر إلا والحزن رفيقه … هاتوا لي ومضة شعر خالية من فيض الحزن ، من ألمه ، من فرحه … كان ذلك في الأزمنة الأولى فكيف هو الآن وقد كبرت أحزان الشعراء وصارت مدناً مسكونة بالموت ، والألم ، والحصارت المصنوعة.
لنعد إلى المجموعة ، نقرأ ما فيها من أحزان وحيوات نابضة فيها ، لعل القراءة تؤهلنا للامساك بمعاني الشعر القابعة في نظم الكلمات ، والتي في المجموعة كلها تنتظم في سياق قصائد مضافة إلى النثر لا بوصفه جنساً كتابياً معروفاً وإنما لأنه بدء الشعرية الذي خرجت من معطفه أفانين القول، أحزان تتلو أحزاناََ ، وبينهما يقف الشاعر يحتفي بسرد قصيدة النثر المفضي إلى أمنيات مصاغة من سخام كانت على مقربة من( بهرز) ، ما بهرز ؟ وكيف لهذه القرية اللصيقة لمدينة(بعقوبة) أن تستأثر بمداليل الشعراء بدءاً بالشاعر ياسين طه حافظ ، ومروراً بالشاعر كزار حنتوش و …. و….
إن الشاعر أديب أبا نوّار يظهر في مفردة ( بهرز) طيرا ذبيحاً في طبقات وجدها ، وأحتراقها اليومي :
حدقت فكانت بهرز ، أرتبكت فضْجّ البكاء ص20 .
وهل مازال البهرزيون يتعلقون بكهوف الذاكرة ص44 .
وتكاد ( بهرز ) بوصفها مكاناً أليفاً تستجمع أحزان الشاعر في المجموعة لتظهر مرات باسمها الصريح ، ومرات مغلفة بأحزان سرمدية مكنىّ بها… في (نعم …. هذا سؤال) تقوم رؤية أحزان الشعر على أسلوب تكرار لازمة العنوان في سلسلة طويلة من دالات التذكر الذهول : تذكر الأصدقاء ، وأيام الحرب، والأمكنة ، والأزمنة التي شغلت مخيّلة الشاعر في بوحها الشعري، فالشاعر يبدو مشدوداً إلى الماضي ، الماضي الذي يبدو اليوم زماناً مبهجاً ولهذا تراه : يريد الحديث عن فارق العملة عن ذكريات أجزاء الدينار ص13 .
ويحاور ذاته بلغة تميل إلى تقصي أساليب المفارقة:
فأنظري يا روح كيف تريدين لي الخراب
إلى أين أذهب عن هذا الجمع من الأوفياء !!
الذين يضعون الكرة الأرضية في جيوبهم ص14.
حتى ( ميراث) الشاعر وهو كلّ ما ملكت يداه في الدنيا لا يخلو من سمة الحزن :
البكاء الخصب
الهياج الهائل في أقاصي الروح.
وجفاف القمر
كل ذلك أحتفال لآخرة الليل ص15.
هذا ميراث الشاعر ، ولأنه شاعر فلا مهمة له إلا قول الشعر وكتابة القصيدة المدماة:
أريد أن أشكل القصيدة بماس الدموع
لأترك مجالاً للضوء في لغتي ص16.
تلك مهمة الشاعر سمها مهنته، فبها بانت لغته التي لم تغادر تضاريس أحزانها:
كنت أدثر أنثاي بالبنفسج
وأحرضها على الصمت ليلة العيد
وأعلمها البكاء تحت المطر ص19.
وها هو في كل مناسبة يدعونا ويدعو أنثاه إلى مزيد من الحزن لا لشيء إلا لمزيد من لوم الذاكرة :
فيا سيدتي لمي عليك حين نبدأ بالعويل ص26 .
عويل لا آخر له ، وبكاء يجر بكاء تزيد من حدته(الموسيقى) التي كانت سلطتها الشعرية والنفسية تتحشد في مفاصل المجموعة وصورها :
فلا بد أن ابكي مرة والى الأبد ص29
وهو القائل أيضا :
اعدي لي حزنا منيفا هذا المساء
الم اقل لك أن أمسيات الخريف تخترق الروح
ساعديني على صمت يطول
وانتظري مني بكاء أطول ص47
لقد أشار أحد النقاد في مناسبة تحدث فيها عن واحدة من أجمل قصائد المجموعة (رابسوديات أيلول) التي أحال فضاءاتها على حقول دلالية صوتية ، موسيقية مغلفة بالسرد في سياقات حزينة أدركها من قبل وهذا ما يمكن تشخيصه في مظان كثيرة :
لا حاجة لنا بذلك
فهذه الكمانات أكثر فصاحة
إذن حزنا أكثر.. حزنا أكثر
فأنا احبك مفجوعا ص48
إن أحزان أبي نوار لا تستمد نسغها من تجربة لغوية مجردة من حدودها الزمانية ، والمكانية ، ولا تأخذ شرعيتها من رومانسية حالمة بالتـجريد ولهــذا لا يمكــن وصفــه بـ الرومانسي الحالم إن أحزانه أحزان شاعر عذّبته تمظهرات الحياة في صيغها الأليمة فكان أن قاومها بالشعر والحكمة المعطلة .
رحم الله أديب أبو نوار الشاعر(الثمانيني) الذي غادرنا في يوم السبت 7/7//2007 فقد كان أنسانا مملوءا بالمحبة والحكايات المترعة بالحب والأحزان، وستظل مدينة(بعقوبة) بأهلها، وبرتقالها، وأدبائها يستذكرون أبا نوّار الذي أحب الجميع.
فاضل عبود التميمي
برحيل الشاعر(أديب أبو نوار-1956/2007-) يكون الأدب العراقي الحديث قد فقد أديب الأمكنة، والبساتين الخضر، والمساحات الحافلة بالمحبة، والحياة، وشاعر الأحزان القزحية... ولأنه ولد في مدينة(بهرز) فقد اخذ منها نسغ المحبة، وسلطة الاخضرار، وغضاضة الماء، وسلاسة المودّة، ونقاء الهواء... من يعرف أديب أبو نوّار، واسمه الحقيقي (أديب شياع البكري العزاوي) يدرك تماما سرَّ تعلقه بالأرض التي ولد فيها، ولزومه الدائم أنهارها، ومنحدراتها بعد أن أحصى بخطواته المتعبة أزقتها، وأسطح المنازل فيها، ودكاكينها المشرعة على واجهات النهر، وسامقات النخل.
لم يكن أديب أبو نوار إنسانا طارئا على البساتين، ونجوم السماء، وزرقة الماء... كان عاشقا نهما في تحولاته المكانية يؤاخي بين بستان ونجمة، بين افياء ونسمة... وكان كلما أدرك أن للبساتين رائحة تكبر مع سر الحياة يمضي بتساوق عجيب مع حيطانها، وأكوام العوسج المغروس على صهواتها... كان يعرف من زاوية القرب منها أنه راحل لا محال ولهذا مارس العشق فيها رجما بالخيال مبدعا أجمل(التحقيقات) فيها، وعنها فكتاباته عن البساتين، والأرض، والوهدان، والأزقة، والمنحنيات، وأخلاقيات الناس تمثل نمطا من الاستحضار الشعري للمكان، وغناء يماميا لفضاءات الزمان... ولم يكتفي بالكتابة وحدها، فقد سجلت كاميرته الخاصة حوارا دافئا مع بوابات البساتين، ونواطيرها، وحيواتها المترامية، لقد حاور عبر عدسة تلك الآلة الصماء براءات القرى المتواشجة مع خرير الماء يوم كانت قرى مترعة بالبهاء، والمسرات العذبة، ثم زاد من تألق مدوناته الفوتغرافية حين عمد إلى نشرها مقرونة بتعليقاته المترفة.
لقد كان أديب أبو نوار مهووسا بالأمكنة، قانعا بمحبتها التي لا تزول فهو في كل نصوصه ينزع نحو المكان، يأخذ من تضاريسه تفاصيل كتابة تشعل هوس المسرات، وتخلطه بأحزان مؤطرة بالحب والحنين... هكذا وجدت أديبا: عينين صغيرتين تخترقان كتل الأرض، وصراخ الجغرافيا، ومجاهل الكثبان بحثا عن انساق الحياة القابعة في مكان لا يستثير أحدا، ولا يشكل ملمحا عند كثيرين، فالحياة التي يمسك بها أديب في تل اجرد، وقنطرة مهدمة، ونخلة بلا رأس، وكلب يعلن عن وثوبه في بوابة بستان، هي نفسها التي يعلن عنها في فضاء البساتين: فراديس الله على الأرض كما كان يسميها.
والمكان في كتابات (أديب أبو نوار) الشعرية عالم يمور بالحركة والألوان والنقاء الإنساني، وهو لا ينفصل قط عن عالم أديب نفسه، حيز جمالي يتحرك بلا منغصات، أو مكائد مفخخة ، يقتفي اثر الجمال، والدهشة وصولا إلى تأثيث(نص) تتشكل فيه حياة أليفة تنمو على عتباتها رغبات البوح، وكسر الألم، وفك مغاليق العزلة بمعناها الخانق.
ترك الفقيد قصائد كثيرة لم تنشر، وأخرى نشرت ولم يجمعها كتاب، فضلا عن رواية مخطوطة لا ادري أين الآن هي... ناهيك عن عشرات التحقيقات الخاصة بالأمكنة العراقية التي زارها في الانبار، والنجف، وبغداد، وكردستان وهي لوحدها تشكل مرجعا فريدا لجغرافية الأمكنة الآهلة بالشوق والمحبة، وله مجموعة شعرية واحدة صدرت عن دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد 2001 عنوانها(المدهش من أحزان العندليب) كرس فيها ظاهرة الحزن في أعلى طبقاتها النبيلة، ترى أي حزن كان يعتلي ذلك الوالد البهرزي النحيل؟.
تنهض مجموعته على دال شعري ينبثق منه مدلول شعري يستّمد نسقه الأول من مخيـّلة الشاعر بدءاً من عنوان المجموعة الذي تفضي القراءة الدقيقة لمحموله الفكري إلى نتاج أحزان مركبة تتقدمها (( الدهشة )) بوصفها حيرة تتملك الشاعر لتشكل من آلامه نمطاً أعلى يميز مكابداته وهو يلج عتبات القرن الحادي والعشرين … فإذا ما غادرت العنوان تلقفتك أحزان أخرى ممهورة بوجع الشاعر وهو يتذكر أصدقاء اليوم والأمس ممن كان الحزن وسيبقى يتبوأ مساحات واسعة في سيمياء لغتهم : الشاعر إبراهيم البهرزي ،وعبد الأمير عبد الكاظم ، والشهيد محمود الزيدي و … و .. :
ترى أيمكن للحزن أن يكون عالماً شعريّـاً تكتمل فيه مدونات الشاعر وأحلامه ؟ .. ذلك ممكن فهو مدلول شعري تلبس (( الشعرية )) مذ أدرك الإنسان الأول أن الشعر قرين الوجود ، ولهذا تشابكت لغته مع كلّ لغات الشعر ، ومدارسه ، واتجاهاته ، وتياراته إذ ما من شعر إلا والحزن رفيقه … هاتوا لي ومضة شعر خالية من فيض الحزن ، من ألمه ، من فرحه … كان ذلك في الأزمنة الأولى فكيف هو الآن وقد كبرت أحزان الشعراء وصارت مدناً مسكونة بالموت ، والألم ، والحصارت المصنوعة.
لنعد إلى المجموعة ، نقرأ ما فيها من أحزان وحيوات نابضة فيها ، لعل القراءة تؤهلنا للامساك بمعاني الشعر القابعة في نظم الكلمات ، والتي في المجموعة كلها تنتظم في سياق قصائد مضافة إلى النثر لا بوصفه جنساً كتابياً معروفاً وإنما لأنه بدء الشعرية الذي خرجت من معطفه أفانين القول، أحزان تتلو أحزاناََ ، وبينهما يقف الشاعر يحتفي بسرد قصيدة النثر المفضي إلى أمنيات مصاغة من سخام كانت على مقربة من( بهرز) ، ما بهرز ؟ وكيف لهذه القرية اللصيقة لمدينة(بعقوبة) أن تستأثر بمداليل الشعراء بدءاً بالشاعر ياسين طه حافظ ، ومروراً بالشاعر كزار حنتوش و …. و….
إن الشاعر أديب أبا نوّار يظهر في مفردة ( بهرز) طيرا ذبيحاً في طبقات وجدها ، وأحتراقها اليومي :
حدقت فكانت بهرز ، أرتبكت فضْجّ البكاء ص20 .
وهل مازال البهرزيون يتعلقون بكهوف الذاكرة ص44 .
وتكاد ( بهرز ) بوصفها مكاناً أليفاً تستجمع أحزان الشاعر في المجموعة لتظهر مرات باسمها الصريح ، ومرات مغلفة بأحزان سرمدية مكنىّ بها… في (نعم …. هذا سؤال) تقوم رؤية أحزان الشعر على أسلوب تكرار لازمة العنوان في سلسلة طويلة من دالات التذكر الذهول : تذكر الأصدقاء ، وأيام الحرب، والأمكنة ، والأزمنة التي شغلت مخيّلة الشاعر في بوحها الشعري، فالشاعر يبدو مشدوداً إلى الماضي ، الماضي الذي يبدو اليوم زماناً مبهجاً ولهذا تراه : يريد الحديث عن فارق العملة عن ذكريات أجزاء الدينار ص13 .
ويحاور ذاته بلغة تميل إلى تقصي أساليب المفارقة:
فأنظري يا روح كيف تريدين لي الخراب
إلى أين أذهب عن هذا الجمع من الأوفياء !!
الذين يضعون الكرة الأرضية في جيوبهم ص14.
حتى ( ميراث) الشاعر وهو كلّ ما ملكت يداه في الدنيا لا يخلو من سمة الحزن :
البكاء الخصب
الهياج الهائل في أقاصي الروح.
وجفاف القمر
كل ذلك أحتفال لآخرة الليل ص15.
هذا ميراث الشاعر ، ولأنه شاعر فلا مهمة له إلا قول الشعر وكتابة القصيدة المدماة:
أريد أن أشكل القصيدة بماس الدموع
لأترك مجالاً للضوء في لغتي ص16.
تلك مهمة الشاعر سمها مهنته، فبها بانت لغته التي لم تغادر تضاريس أحزانها:
كنت أدثر أنثاي بالبنفسج
وأحرضها على الصمت ليلة العيد
وأعلمها البكاء تحت المطر ص19.
وها هو في كل مناسبة يدعونا ويدعو أنثاه إلى مزيد من الحزن لا لشيء إلا لمزيد من لوم الذاكرة :
فيا سيدتي لمي عليك حين نبدأ بالعويل ص26 .
عويل لا آخر له ، وبكاء يجر بكاء تزيد من حدته(الموسيقى) التي كانت سلطتها الشعرية والنفسية تتحشد في مفاصل المجموعة وصورها :
فلا بد أن ابكي مرة والى الأبد ص29
وهو القائل أيضا :
اعدي لي حزنا منيفا هذا المساء
الم اقل لك أن أمسيات الخريف تخترق الروح
ساعديني على صمت يطول
وانتظري مني بكاء أطول ص47
لقد أشار أحد النقاد في مناسبة تحدث فيها عن واحدة من أجمل قصائد المجموعة (رابسوديات أيلول) التي أحال فضاءاتها على حقول دلالية صوتية ، موسيقية مغلفة بالسرد في سياقات حزينة أدركها من قبل وهذا ما يمكن تشخيصه في مظان كثيرة :
لا حاجة لنا بذلك
فهذه الكمانات أكثر فصاحة
إذن حزنا أكثر.. حزنا أكثر
فأنا احبك مفجوعا ص48
إن أحزان أبي نوار لا تستمد نسغها من تجربة لغوية مجردة من حدودها الزمانية ، والمكانية ، ولا تأخذ شرعيتها من رومانسية حالمة بالتـجريد ولهــذا لا يمكــن وصفــه بـ الرومانسي الحالم إن أحزانه أحزان شاعر عذّبته تمظهرات الحياة في صيغها الأليمة فكان أن قاومها بالشعر والحكمة المعطلة .
رحم الله أديب أبو نوار الشاعر(الثمانيني) الذي غادرنا في يوم السبت 7/7//2007 فقد كان أنسانا مملوءا بالمحبة والحكايات المترعة بالحب والأحزان، وستظل مدينة(بعقوبة) بأهلها، وبرتقالها، وأدبائها يستذكرون أبا نوّار الذي أحب الجميع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق