١٣‏/٠٧‏/٢٠٠٦

مدارات ادونيس
علاقات «تَفْكير»، لا علاقات «تكفير»
أدونيس
- 1 –
كلما قمت بزيارة الى مدينة اسطنبول، وقد زرتها مراراً. بدءاً من منتصف ستينات القرن الماضي، يتضح لي أكثر فأكثر، أن لهذه المدينة خصائص تجعل منها حاضرة إسلامية فريدة.
إنها، من جهة، نقطة وصل عُضويّ بين الطبيعة والثقافة، يتمازج فيها الإنسان والوسط الجغرافي، في شكل حميم.
المدى الجغرافي، مجسداً في البحر الأسود، فالبوسفور، فبحر مرمرة، فالدردنيل، فبحر إيجه، فالبحر الأبيض المتوسط، يُعانق مدى تاريخياً – ثقافياً، يتجسد في الفترة ما قبل الوحدانية، فالوحدانية المسيحية البيزنطية، فأوروبا.
وهذا ما يجعل هذه المدينة تبدو، من جهة ثانية، كأنها أفقٌ مفتوح بلا نهاية، يتداخل فيه الشرق والغرب كأنهما أرض واحدة، أو «بيت» واحد. وهذا مما ربط الإسلام التركي ويربطه، موضوعياً، بالحداثة الغربية، ومما يجعل منه نموذجاً خاصاً – للفكر والعمل، داخل «العالم الإسلامي».
ولئن كانت هناك مدنٌ – عواصم للماضي، ومدن عواصم للحاضر، ومدنٌ عواصم للماضي والحاضر والمستقبل، فإنني أضع مدينة اسطنبول في طليعة هذه المدن الأخيرة. فهي ليست مشروعاً منفتحاً، موضوعياً وعضوياً، على المستقبل وحسب، وإنما تُسهم كذلك في رسم صورته، وفي بنائه.
الإسلام التركي هو، اليوم، السؤال الأول الذي يجب أن يُطرح على الإسلام العربي. لا على مستوى «الخارج»، وحده، وإنما كذلك على مستوى «الداخل»، وليس على السياسة وحدها، وإنما كذلك على الثقافة. خصوصاً أن الإسلام التركي يؤسس لعلاقات إنسانية جديدة، في ما بين أبنائه، من جهة، وفي ما بينهم وبين «الآخرين»، من جهة ثانية: علاقات «تفكير»، لا علاقات «تكفير».
- 2 –
من اسطنبول، ذهبت الى باليرمو، عاصمة صقلية. لا يزال شعاع من الفن العربي يتلألأ فيها. في كنائسها، خصوصاً. في الكاتدرائية الباذخة، مونريال، على الأخص. حتى في باليرمو، يواجهك تساؤل داخلي صامت: لماذا لا نجد في البلدان العربية فناً عربياً يضاهي بقايا الفن العربي في الأندلس، مثلاً، أو حتى في صقلية؟
هل يجب أن يخرج العرب من ديارهم لكي يكونوا مبدعين وعظماء؟ هل معناهم منحصر في «الهجرة» التي تجعل منهم «أفراداً»؟ كأن العرب لا يبدعون إلا بالمشاركة مع غيرهم. كأن ذاتيتهم الخلاّقة لا تنشحذ إلا بالآخر.
كن غيركَ، إذاً، لكي تكون نفسك. الآخر يُعطيك ما ليس فيك. يكملك، فيما يجعلك أكثر معرفة بنفسك وبالعالم.
«الهجرة» هي أن تكون»فرداً» – هي أن تخرج من «الأمة» الى الكون كله. في «الأمة» لا يكون الفرد سيد نفسه، بل تكون هي السيدة. وليس هو من يحدد الغاية من حياته ووجوده، بل هي. هو فيها مجرّد «خلية» في جسم – كتلة. وهويته هي هوية هذا الجسم – الكتلة.
لا فرادة له.
الفرادة تضاد، وتريد «الأمة» أن يكون الفرد معيّة. الفرادة علوٌّ، وتريد «الأمة» أن يكون الفرد «ترسّباً».
- 3 –
هكذا، فيما وراء العام، اجتماعياً وثقافياً وسياسياً، وهو بالغ الفاعلية والأهمية، تأخذني «الهجرة» دائماً الى الذاتي الخاص، البالغ الفاعلية والأهمية هو كذلك، كأنه وردة فاتنة في بستان عظيم، فأردد ما يقوله الشاعر الفاتن مالكولم دو شازال: «جسم المرأة الجميل، أفضل القناديل. نوم اثنين معاً يجعل الليل أقل عتمة».
لكن، سرعان ما يستحوذ عليّ الهاجس الذي لا يقل فتنة. لا أشعر انني موجودٌ، حقاً، بالوصل بل بالفصل. وكلما ازددت اتصالاً أشعر أن علي أن أزداد انفصالاً. ألأنَّ في الاتصال شيئاً من «المعيّة» أو «التبعية»؟ ولماذا هذه «الجدلية» الجامحة في العلاقة حتى بين العمق والعمق، العِرق والعِرق، العَصَب والعصب، الشريان وأخيه الوريد؟ هل لأن «الاستقلالية» هي وحدها الوجود الحي، والحر؟
ومن أين يجيئني هذا الطبع: لا أثبتُ. أحيا متحولاً في حركة من الانفكاك المتواصل الى أن يذوب جسدي في موج الكون.
وماذا أفعل؟
كثيراً، شكوت أمري الى الطبيعة. وتمنيت لو أنها أصغت إلي ولو مرة واحدة.
لا تسألوني، إذاً، لماذا أعشق الجانب البدوي، البدائي في هذه اللغة الفاتنة – لغة العرب: امرئ القيس، طرفة، الأعشى الكبير. الشنفرى وتأبط شراً، وبقية الصعاليك.
هذه البدائية بداية دائمة. تحولٌ دائم.
والقِدَمُ هنا ليس إلا قَدَماً لا تتوقف عن الحركة وعن الرقص في قلب الحاضر.
وما تكون الحياة إذا لم تكن هذه البداية الدائمة؟
- 4 –
أنتظر.
بعدُ، لم تجئ الطائرة. باليرمو – فينيسيا. لا تزال اليقظة باكراً تشوّش حاسة اللمس، كما لو أن جسدي لا يزال يتمطى في سرير نومه.
آخذ عصير برتقال. أتأكد أن لدي قوة لتدمير طاقاتي أحارُ في تأويل دلالاتها. من أين تجيئني الرغبة في استنفاد ما أكتنزه؟
بعد، لم تجئ الطائرة.
في القاعة أشخاص مثلي يحملهم النوم في أرجوحة. تعب السهر كمثل غيم على الوجوه. ليس للصباح معنى، حين لا يطلعُ من الليل، عفواً. حين يتحول الى نُعاس وتثاؤب. حين يؤخذ اغتصاباً.
الصباح، تحديداً، مستقبل. ولا يكون، في مثل هذه الحالة، إلا ماضياً. وما أشقى الحياة حين يكون «الغدُ» فيها، هو «الأمس».
تأخّرت الطائرة.
انهار جسر كنت أمدّه بين الواقع ورغبتي. هكذا تحوّلت رغبتي هي نفسها، وانضمت الى الجيش الذي يحاربني.
أقدر الآن أن أقول: أعرف الوحدة.
الأرض كوخٌ يكاد أن يتهدّم عليّ.
السماء بطاقةُ سفر.
والشمس كمثل ثوبٍ شفافٍ على جسد الأرض.
 Posted by Picasa

ليست هناك تعليقات: