إدوارد سعيد ..داخل الزمان.. خارج المكان
سعد محمد رحيم
ما الذي دفع مفكراً ذا شأن مثل إدوارد سعيد إلى كتابة سيرته الذاتية؟.. ما الذي جعله يبحث عن طفولته البعيدة بين القدس والقاهرة وظهور الشوير ـ مصيف لبناني ـ وعن يفاعته وشبابه بين مدن العالم؟. ولماذا هذا الاختراق العمودي العميق والباهر للزمان والمكان؟. ولماذا هذه المجالدة مع الذاكرة وضد الذاكرة؟.إلى مَ رمى إدوارد سعيد وهو ينقب في تفاصيل حياته العائلية، بخفاياها وأسرارها وملابساتها؟.. ماذا كان يمكن أن يجني، وهو يكشف، ما يحاول ملايين الناس الاعتياديين، مواراته ودفنه، أو على أقل تقدير، عدم الاكتراث به؟. ماذا يعني هذا الهوس المحموم لتعرية ميكانزمات سلطة الأب، وتحسس العروق الخبيئة للحب والحقد والكره بين الابن وأبيه، وذلك الانشداد المضني والمقموع والمحبط في العلاقة مع الأم؟يبدو أن المرء وهو يواجه حقيقة الموت المتربصة يتحرر من سطوة قيم ومواضعات اجتماعية عديدة فيكون أشد جرأة، ولا اكتراثاً، وصدقاً مع النفس، ومع العالم.هل إن الموت ـ هذه الموضوعة الوجودية الغامضة والطاغية، هو الباث السري الذي يدفع الإنسان ـ ولا سيما المثقف ـ لاستعادة تلك الأجزاء الضائعة، أو التي هي في سبيلها إلى الضياع، من شريط الحياة، وإبقائها حية، عبر الكلمات؟يقول إدوارد سعيد في تقديمه لكتابه [خارج المكان]: “هذا الكتاب هو سجل لعالم مفقود أو منسي. منذ عدة سنوات، تلقيت تشخيصاً طبياً بدا مبرماً، فشعرت بأهمية أن أخلّف سيرة ذاتية عن حياتي في العالم العربي، حيث ولدت وأمضيت سنواتي التكوينية، كما في الولايات المتحدة حيث ارتدت المدرسة والكلية والجامعة. العديد من الأمكنة والأشخاص التي استذكرها هنا لم تعد موجودة، على الرغم من أني أندهش باستمرار لاكتشافي إلى أي مدى أستبطنها، وغالباً بأدق تفاصيلها بل بتشخيصاتها المروعة”.(1)كانت حياة غير مستقرة، تلك التي عاشها إدوارد سعيد الطفل، واليافع المراهق، والشاب.. حياة قلقة في علاقتها بالمكان، موزعة، تكاد تكون ظل المنفى.. السفر دائماً.. الانتقال من مكان إلى آخر، وذلك الرحيل القسري بعيداً عن مسقط الرأس، بعيداً عن الجذر. أصدقاء جدد في كل مرة، وجيران جدد. ومن ثم قيم جديدة، ومناخات اجتماعية وثقافية مغايرة. فألقى ذلك كله في مسارب نفسه دفقات هائلة من ذكريات، أحداث وأشخاص وأماكن وأحلام مجنحة.“إلى جانب اللغة كانت الجغرافية في مركز ذكرياتي عن تلك السنوات الأولى، خصوصاً جغرافية الارتحال، من مغادرة ووصول ووداع ومنفى وشوق وحنين إلى الوطن وانتماء، ناهيك عن السفر ذاته. فكل واحد من الأمكنة التي عشت فيها ـ القدس والقاهرة ولبنان والولايات المتحدة ـ يملك شبكة كثيفة ومركبة من العناصر الجاذبة، شكلت جزءاً عضوياً من عملية نموي واكتسابي هويتي وتكوين وعيي لنفسي وللآخرين”.(2)وهو يسمي كتاب مذكراته [خارج المكان] يناور إدوارد سعيد في أفق البلاغة والفلسفة والسياسة والتاريخ في آن معاً، فهو لا يغادر المكان على مستوى الواقعة، جغرافياً، إلا من أجل أن يعود إليه رمزياً ليحتويه ويعلن انتماءه إليه، وعدم تخليه عنه، والإمساك به حتى الرمق الأخير.ها هنا يمتزج الوعي بجدل التاريخ وأحابيله، بالحنين الإنساني إلى الغرف والطرقات القديمة والأصدقاء الذين تبعثروا في الجهات، بحلم العودة أبداً إلى الينابيع، وبالمسألة الوجودية الكبرى ـ مسألة الموت. فيكون الحديث، في هذا المقام، عن مدارات تتداخل وتنفصم لتتداخل بكيفية جديدة هذه المرة. ومعها تتبلور الرؤية وتنضج فتستنجد باللغة ـ بأناقتها وهيبتها ومكرها وألاعيبها ـ من أجل أن تخرج نصاً إلى النور.. نص المذكرات وقد تسلل عبر كثافة الذاكرة، والتجارب، والخطوط الدفاعية المستميتة للاوعي، ومقاومة النسيان. ومن ثم خلل الحضور المتطلب، الفريد للشخصية.يعي إدوارد سعيد وضعية المنفي، خارج مكانه الاعتيادي، معالجاً إياها في فصل مثير من كتابه “صور المثقف”، وهو بعنوان “المنفى الفكري: مغتربون وهامشيون” عندما يتحدد المنفى مفهوماً بالإبعاد، وليس بالابتعاد بمحض الاختيار، بالاقتلاع من الجذور والخروج إلى المتاه. فالمنفى وضع نفسي واجتماعي وفكري خاص.. حساسية وموقع وموقف. وكلمات من قبيل (الكآبة والقلق والخوف والغربة وانعدام الأمان، والسخرية) تكون مألوفة في الحديث عن المنفي. ويكون الأمر أشد توتراً وإشكالية حين نتناول موضوع المثقف منفياً. وقد سكن إدوارد سعيد هاجس دائم؛ إنه في غير مكانه.. ذلك الشعور العميق والباهظ للمنفي/ ولا سيما المثقف، والذي سيبحث عن تعويض فذ وفعال من خلال الإبداع.“تصبح الكتابة لمن لم يعد له وطن مكاناً للعيش”.. هذا ما كان يقوله ثيودور أدورنو الذي يعدّه سعيد الضمير الفكري المهيمن لمنتصف القرن العشرين، وقد أمضى سنوات في أمريكا وسمته بعلامات المنفى إلى الأبد (3) فانعكست ظروف المنفى على أسلوبه ذاته في الكتابة كما يرى سعيد.“إن لب تمثيل ادورنو للمثقف كمنفي دائم، يتفادى مجابهة القديم والجديد كليهما ببراعة متكافئة، هو أسلوب في الكتابة متكلف وممحص إلى درجة الإفراط. إنه في المقام الأول مجزأ، متقلب، متقطع، لا حبكة فيه ولا ينتهج تسلسلاً محدداً سلفاً. وهو يمثل وعي المثقف وكأنه غير قادر على التحرر من القلق أينما كان، متيقظاً باستمرار احتراساً من مغريات النجاح، مما يعني، بالنسبة إلى أدورنو، المشاكس في نزعته، القيام بمحاولة عن وعي وإدراك بهدف ألا يُفهم بسهولة وعلى الفور”.(4)وفي حالة إدوارد سعيد، نجده منذ الفصل الأول لكتابه يلخص لنا ملابسات ذلك الوضع الوجودي المقلق لحياته:“وقع خطأ في الطريقة التي تم بها اختراعي وتركيبي في عالم والدي وشقيقاتي الأربع. فخلال القسط الأوفر من حياتي المبكرة، لم استطع أن أتبين ما إذا كان ذلك ناجماً عن خطأي المستمر في تمثيل دوري أو عن عطب كبير في كياني ذاته. وقد تصرفت أحياناً تجاه الأمر بمعاندة وفخر. وأحياناً أخرى وجدت نفسي كائناً يكاد أن يكون عديم الشخصية وخجولاً ومتردداً وفاقداً للإرادة غير أن الغالب كان شعوري الدائم أني في غير مكاني”.(5)ويعود في المقطع الأخير من كتابه ليشير إلى نزعة التشكيك التي هي إحدى الثوابت التي يتشبث بها، والتي تجعله غير مقتنع على الدوام.“والواقع أني تعلمت، وحياتي مليئة إلى ذلك الحد بتنافر الأصوات أن أؤثر ألا أكون سوياً تماماً، وأن أظل في غير مكاني”.(6)هل المنفى مقولة الجغرافيا ـ مقولة التغيير في المكان ـ فحسب؟ أم هو التباس قسري على مستوى السيكولوجيا، وشرخ في الوعي ومن ثم تحول في الرؤية إلى الذات والعالم؟.“أرجوك لا تتخذ هذا القرار!”.هكذا خاطب باسترناك، الرئيس السوفيتي “خوروشوف” عندما راحت الصحافة الشيوعية تطالب بنفيه بعدّه عدواً للدولة السوفيتية “السابقة” بعد حصوله على جائزة نوبل للآداب. وتم إجباره على مغادرة روسيا فلم يطق الابتعاد فانتحر في البرازيل، وخرج ريمارك خفية من ألمانيا النازية لينجو بجلده. وغادر إدوارد سعيد القدس في ظروف أشد تعقيداً ليجد نفسه أخيراً في أمريكا، وهناك فرض نفسه مثقفاً ومفكراً من طراز ممتاز. حورب من قبل اللوبي الصهيوني، وجرى الاحتفاظ به، أيضاً، جزءاً من الديكور الديمقراطي الأمريكي.. تكيف، واستغل وضعه بحنكة وذكاء فصار هاجساً يقض مضاجع الطارحين لوجهة النظر الصهيونية هناك.في كتابه “الاستشراق: المعرفة.. السلطة.. الإنشاء” قام بتفكيك وتقويض طروحات المستشرقين فأثار لغطاً وردود فعل من قبل أولئك الذين يتحصنون في مواقعهم الأكاديمية الراسخة، وهم يظنون أنهم بمنجى عن أي نقد جاد وفاعل يمكن أن يزعزع مواقعهم تلك. وفي كتابه “تغطية الإسلام” فضح الآليات التي تتحكم بصناعة صورة الإسلام في وسائل الإعلام الأمريكية، ونجح كذلك في تقديم وجهة نظر فلسطينية، موضوعية، مقنعة في الراديو والتلفاز والصحافة.يظهر إشكالية حضور إدوارد سعيد في الوسط الأكاديمي الثقافي الأمريكي في كونه عربياً ـ فلسطينياً ـ مسيحياً، حاصلاً على الجنسية الأمريكية، ومثقفاً ثقافة عصرية عميقة، متمثلاً أفكار ومناهج عتاة رجال الفكر والفلسفة الغربيين، ومن ثم عارضاً لوجهة نظر في قضايا العالم ـ ولا سيما القضية الفلسطينية ـ لابد أن تكون مسموعة، وتؤخذ بنظر الاعتبار والجدية.أن يكتب مفكر مثل إدوارد سعيد سيرته، معناه أنه ما يزال يبحث عن هوية وجوده ـ تلك التي تشكلت بتضافر ظروف ومعطيات وشروط متشابكة ومعقدة، وما تزال لم تستقر بعد ـ تلك الهوية ـ على ماهية قارة، أو صورة أخيرة. ذلك أن الهوية ليست شيئاً جامداً نهائياً، بل حالة تستمر في التكون والتشكل ما دام الإنسان يحيا وينتج. (7) وتتجلى الأهمية المزدوجة لسيرة إدوارد سعيد [خارج المكان] في أنها مكتوبة في مكان الآخر “الغرب”، أقصد في المنفى، ذلك الذي ينعته سعيد بأنه “أحد أكثر الأقدار مدعاة للكآبة”،(8) وهي كتابة عن الموطن الأول/ مرتع الطفولة ـ الأماكن التي شهدت تكوين الشخصية والذاكرة.. هذا من جانب، ومن جانب آخر فهذه السيرة هي استجابة واعية ومتحدية ضد الموت، كما ذكرنا آنفاً.“غير أن الدافع الرئيس لكتابة هذه المذكرات هو طبعاً حاجتي إلى أن أجسر المسافة، في الزمان والمكان، بين حياتي اليوم وحياتي بالأمس.. أرغب فقط في تسجيل ذلك بما هو واقع بدهي دون أن أعالجه أو أناقشه، علاوة على أن انكبابي على مهمة إعادة تركيب زمن قديم وتجربة قديمة قد استدعى شيئاً من البُعاد ومن السخرية في الموقف والنبرة”.(9)إنه كتاب خطير وهام ذلك الذي جعل المؤسسات الصهيونية تجند أحد رجالها للبحث في المراحل الأولى من حياة مؤلفه، لتدحض ما كتبه. فإدوارد سعيد بما كان له من مكانة فكرية مرموقة عالمياً عدّ سلطة مؤثرة، وشهادة شخص مثله ستكون مسموعة، لا شك. فما يقوله في هذا الكتاب، لابد أن يرعب تلك المؤسسات التي تسعى لحجب حقيقة اغتصاب أرض فلسطين ونفي شعبها، والتي يفضحها سعيد، ها هنا، بأسلوب غير مباشر، هادئ، جذاب، وعذب.ولد إدوارد سعيد في القدس في العام 1935، وقضى شطراً من حياته هناك، ودرس في إحدى مدارسها قبل أن يرحل إلى القاهرة ليقضي بضع سنوات مع أهله، ومن ثم إلى أمريكا، ويستقر ثمة حتى وفاته في نهاية العام 2003. وقد عاد بعد أربعين سنة لاستقصاء أماكنه القديمة التي ترك في جنباتها شيئاً من أنفاس يفاعته وشبابه، وتركت هي في روحه دفئها وسحرها وألفتها.إن كتابة السيرة أشبه ما تكون بحلم يقظة واع، مشبع بالحنين، وبالشفقة على الذات وهي ترنو إلى شفقها “نازلة المنحدر من الجانب الآخر” على حد تعبير جاستون باشلار.من هنا نخلص إلى أن كتابة إدوارد سعيد عن سنوات حياته الأولى، ولا سيما في الأرض العربية تعد استبطاناً رمزياً وواقعياً في آن، لضمير وعقل وذاكرة مثقف كبير من مثقفي عصرنا في مواجهة أقدار النفي والموت القاسية.
::. سعد محمد رحيم
الهوامش
1- إدوارد سعيد، “خارج المكان”، ترجمة فواز طرابلسي، دار الآداب، بيروت، ط1، 2000، ص 19.2- المصدر نفسه، ص 22.3- إدوارد سعيد، “صور المثقف ـ محاضرات ريث سنة 1993?، دار النهار، بيروت، ط 1، 1996، ترجمة غسان غصن، ص 63-64.4- المصدر السابق، ص 65.5- إدوارد سعيد، “خارج المكان”، مصدر سابق، ص 25.6- المصدر السابق، ص 359.7- أمين معلوف، “الهويات القاتلة، قراءات في الانتماء والعولمة”، ترجمة د. نبيل محسن، منشورات ورد، سوريا، ط 1، 1999.8- إدوارد سعيد، “صور المثقف”، مصدر سابق، ص 57.9- إدوارد سعيد، “خارج المكان”، مصدر سابق، ص 22.saadrhm@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق