١١‏/٠٧‏/٢٠٠٦


قصة قصيرة..
لا أحد يريد ترك الدراما ..!!
تحسين كرمياني
في تمام الساعة الرابعة وعشر دقائق من عصر أول خميس من شهر مايس عام 1975،ارتفعت رؤوس الناس من فوق أسطح البيوتات الطينية المتباينة مثل فقاعات مساحيق الغسيل،عائمة ترتجف قبل أن تلفظ أنفاسها،بدأت مئات الأيدي تتحرك مثل رايات مهملة تتموج بفعل ريح مباغتة،كانت ترتفع وتهبط لتشكل واقيات فوق حواجب العيون وهي تجاهد خرق التوهج الحاد لشمس مايس القاسية التي راحت تقذف ذروة أشعتها ـ بشكل مفاجئ ـ في يوم حفل بهدوء نسبي لم تعهده مدينتنا الجاثمة ـ بحياء عذراء ليلة زفافها ـ على نهر(ديالى)المتعرج كثعبان في لحظة فرار من أعالي الشمال،تحاول العيون جهد مساعيها استيضاح مئذنة الجامع الوحيد وهي بالكاد تلوح من بين فيضان الشمس،شارخة الفضاء الخالي من بين كوكبة نخيل تبدو أشباح ضئيلة تبغي التسلق باتجاه القمة المزججة،كان المنادي ينادي عبر مكبرات الصوت في محاولة يائسة لاستقطاب الناس لأداء فريضة العصر،تحديداً كبار السن كون الشباب كانوا يشكلون خطراً على مستقبل البلد فصاروا عرضة لملاحقات ومطاردات رجالات ووكلاء أمن ووشاة يعملون لصالح السلطة مندسين بتنكر وأيمان مصطنع بين جموع المصلين وأمام المنافذ المؤدية إلى الجامع الكبير،ربما لأول مرة في تاريخ المآذن يتم الدعوة لأداء فريضة واجبة لأكثر من سبع مرات،ما خلى دعوات عرضية تحصل في فترات متباينة،أوان قحط يعصف يستجمع الناس لأداء صلاة الاستسقاء أو حين تحصل فيضانات يتم شحن الناس لنجدة المنكوبين وربما ـ وهذا ما كان يحدث دائماً ـ كلما يتم العثور على طفل تائه أو طفلة،أو يفقد طارئ شيئاً من أشياءه،أصبح الجامع في نظر الناس مكان مؤهل لنقل الخبر إلى تشعبات المدينة،ظلّت ألسن وعيون النسوة والفتيات والأطفال تتساءل عن سر الخطاب المتلاحق لمؤذن الصلوات الخمس في تلك الساعة..
**********
في تلك اللحظة..كانت جموع الناس تندفع باتجاه الوادي الكبير،شيئاً فشيئاً بدأ هدير يتنامى ويستفز المسامع أوان الفواصل المتلاحقة للصمت ما بين نداء وآخر للصلاة ، رويداً رويداً بدأت فقاقيع الرؤوس تنفلق وبدأت أيقونات غبار تستفحل وتتشكل قبل أن ترتفع هامات أفعوانية متذبذبة من ممرات الأزقة المتعرجة بين البيوتات العشوائية..!!
**********
في تلك اللحظة أيضاً..كانت (دلباك)تتهيأ لليلة عرسها،لم تنم الليل بعدما حالفها الحظ من بعد سنوات عذاب،قبلت أمها على مضض زواجها من حبيبها (كوركة)شاب ظلّ يخفق كل عام في دراسته بسبب استهواءه الدراجات النارية من ثم السيارات القديمة المتهالكة،بعدما تناولت غداءها،لم تترك مرآة زينتها غير مصدقة على ما سيحصل من تغير دراماتيكي في أسلوب حياتها،ستجلس كل أصيل ـ هكذا فكرت ـ في صدر مركبة ويقوم بعلها(كوركة)بمغامراته المسائية كما كان يفعل سابقاً ـ قبل أن تعشقه ـ على الشارع الرئيس الممتد على طول الوادي الذي يشرخ مدينتنا إلى طرفين متعادلين،سمعت جلبة أقدام تهرول،قامت وصعدت إلى سطح البيت،رأت جموع بشرية تلهث وأخرى تحتشد على طول الشارع،لم تصغ لنداء المنادي،تمنت أن يعجل (كوركة) موكب الزفاف بعدما لاحت فرصة مناسبة كي تتبختر أمام هذه الجموع..!!
**********
في تلك اللحظة أيضاً..توقفت ألسن المعلمين والمدرسين،وراحت عيون التلاميذ تلتصق بالنوافذ العارية،فقدوا توازنهم وبدأت رغبة الانفلات تنضج وتتدافع فيهم،كلهم أمل أن تقرع الأجراس كي ينتهزوا الفرصة السانحة ليجتازوا الجدران ويكونوا مع البشر الراكض بذهول صوب شيء ما يحصل في مكان ما من المدينة،سيارات جيب متهالكة تزمر بحشرجات صوتية مخنوقة،تحمل شباباً يتصارخون ويلوحون بقمصانهم..!!
**********
لأوّل مرة في تاريخ المدينة تركن الشرطة للهدوء،ظلّوا ملازمين ثكنتهم الحصينة،في محاولة مسك خيط القضية قبل أن تتحرك ـ مسلحاتهم ـ وهي تطلق العيارات النارية في الهواء كجزء من خيارات مطروحة لتفكيك كل أمر جلل قبل حصول مصادمة غير محمودة العواقب في مدينة تقطنها قوميات متعددة وتسري في عروقها دماء مبادئ رافضة،من فوق بناية الناحية العملاقة المتربعة صدر السوق الرئيس أرسلوا نظرات وجلة عبر نواظير يدوية،متأهبون لأية انتفاضة شعبية قد تحصل بعد مرور أسبوعين على إعدام أربعة أشخاص في تجمع جماهيري غاضب أمام المبنى..!!
**********
لم يحتمل التلميذ(رشيد أحمر)كما شاع أسمه،فوران دمه،كان معروفاً بين الكثير من الناس فتى المظاهرات الأوّل وخالق مشاكل لرجال الأمن وناثر مناشير بارع،ضرب رحلته بكتبه قام وصاح :
ـ إلى الشوارع يا شباب..!!
أثار حماسة زملاءه،اندفعت الصفوف رغم صرخات وتهديد المدير والمدرسين قبل أن يخرجوا هم أيضاً ليروا ما الذي يجري في مدينة سادها الهدوء بعدما أعدمت السلطة رجل وضيوفه..رجل أوى رجلان وفتاة قدموا من الشمال في قطار الظهيرة،قيل أنهم زرعوا عبوة تحت سكة القطار الذاهب إلى مدينة(كركوك)ساروا يهتفون ويضربون بباطن أكفهم كتبهم كأنهم في مسيرة احتجاجية أو أسرى فرحة غامرة لزوال سلطة اغتصبت البلاد بثورة باطلة،على امتداد حافة الوادي الكبير ليس بوسع طفل أو امرأة الحصول على شبر أرض كي يتمكن رؤية ما يجري بوضوح،ظنّ البعض عملية إعدام جديدة،بشر يهدر وقهقهات تتناثر رغم موج الغبار الذي أزال رقعة شمس الأصيل عن سماء المدينة،ما بين لحظة وأخرى تتحرك الجموع دفعة واحدة لتكشف الطريق أمام يائسين سقطوا تحت الأقدام،قبل أن يبرز جسد ثور ضئيل شرس الطباع وهو يطارد كل من يدنو منه،لم يفاجأ(رشيد)ولم يبدل من حماسته،إذ وجدها فرصة متاحة لتمرير غضبه وتهيئة رفاقه للتعبير عمّا تجيش صدورهم به من منابع ثورية جامحة،تقدم باتجاه الثور الغاضب،وهو يلوح بقميصه الأصفر كدلالة لراية حزبه أمام الجموع،لم ينتبه واشي أو وكيل أمن لذلك،سرعان ما برزت من كل زاوية سروال داخلي أو قميص ومناديل صفر،راحت ترفرف على إيقاع التصفيق المتناسق للكفوف،كان الثور يحدق بعين ملؤها تساؤلات،في المسافة الفاصلة بينهما،يزوي بعينيه بحثاً عن مخرج من هذه المعضلة..!!
**********
لم تكف (دلباك)عن البكاء وهي تلبس فستان عرسها..
قال كوركة :
ـ سأجعلهم يتقاطرون من حولنا..
ـ أريد أن أفرح وأرفع رأسي بين الناس..
لم يكن في الزقاق سوى أمها وأم (كوركة)العجوز وامرأة بدينة رفضت مرافقة العريسين،أنسحب الطبّال والعازف بعدما هرب الناس صوب الوادي،صعدا العروسان إلى سيارة(اللادا)فانطلقا،منتصف الشارع الرئيس على الوادي كانت الحشود البشرية تتراكض وتقف،أوقف (كوركة)سيارته وسط الجماهير الراكضة،حين أراد أن ينطلق ـ بعدما تكشف الشارع ـ عطس المحرك وتوقف..
ـ لعنة الله على الشيطان هذا الصباح جفّت المحرك..
ـ قلت لك سيارتك لا تنفعنا..
ـ ولكننا اتفقنا على أن يكون زواجنا تاريخياً..
ـ سنكون فضيحة بين الناس..
ـ لا تهتمي..الناس مشغولون بالثور المخبول..
هبط وفتح باب المحرك،وجد ربطة عنقه تعيقه،نادى على (دلباك) مررت كفها من فوق زجاج النافذة وحشرته داخل قميصه،أخرج (كوركة)بدلة عمله،ارتداها على عجل،تمدد وزحف إلى أسفل السيارة..!!
**********
في تلك اللحظة كان الثور يندفع باحتراس وراء(رشيد)الذي أنطلق بما لديه من حرص وخوف وقوة اتجاه رجل وقور يرتدي نظارة سوداء،تفاجأ الرجل بالثور ينطلق صوبه،قبل أن يفتح باب سيارته،فاجأه الثور وأرداه طريح الأرض،قهقه الناس وتعالت صيحات ورفرفت الرايات الصفر،لقد جهل الناس في تلك اللحظة أن (رشيداً)مارس ذكائه وأصاب كبد السلطة في الصميم لحظة أدار دفة غضب الثور نحو مسؤول المدينة الذي ترجل من مركبته وأراد أن يفرض جبروته على الناس،تنامت رغبات المغامرة لدى الشباب،بدأت الجموع تتقدم وتهرب وكان الثور دائماً يجد ضحية ملائمة وباقة تصفيق وصيحات..!!
**********
لحظة أراد (كوركة)أن يخرج من أسفل السيارة،شعر بشيء يقف ويعيق حركة قدميه،صرخة(دلباك)دعته يستدير رأسه من أسفل السيارة الجاثمة،رأى أربعة قوائم (تنزرع)سوداء عرف أن الثور يتأهب للانقضاض عليه،تناهت إلى سمعه أصوات هادرة..
ـ كوركة..كوركة..!!
لملم أطرافه بينما كان ـ بوز ـ الثور يبحث عنه..
صاح :
ـ دلباك..دلباك..مسدسي في (الجكمنجة)..
صاحت الجموع :
ـ رشيد ..رشيد ..
أندفع (رشيد)وهو يلوح بقميصه إلى الثور الواقف،استدار الثور ليجد الفتى ينطلق إليه،ضرب بقوائمه الأرض وراح يستعد كي يدركه هذه المرة،صارت المسافة بينهما خمسة وعشرين متراً،رفرف القميص الأصفر وهدرت الأفواه..
ـ رشيد..رشيد..
كان الثور يتلفت باتجاه الحشود،وظلّ (كوركة)يشد من أزر(دلباك)ويشجعها على تناول المسدس،استدار الثور وبدأ يكافح لدفع السيارة برأسه..
صاح كوركة :
ـ دلباك..دلباك اسحبي البريك..
استدار(رشيد)ولوّح برايته،هدرت الأفواه ثانية،تهتف (رشيد..رشيد..)تقدم رهط من رفاقه لإسناده،بدءوا بإلقاء الحجر في محاولة لسحب الثور والسماح لـ(كوركة)أن يتدارك نفسه،أصابت واحدة زجاج السيارة وأحدثت كسراً دفع(كوركة)من أسفل سيارته يطلق لسانه الوسخ ساباً وشاتماً الرامي،تقدم(رشيد)ووقف أمام السيارة وهو يوقف زحفها بينما كان الثور من الخلف يدفعها،توقف الثور وأتجه بخطوات حذرة باتجاه(رشيد)الذي بدأ يستدير على مهل واحتراس شديد،شعر الثور بغبائه بعدما دار أربعة دورات وسط هدير الأفواه الزاعقة،تمكن (رشيد)أن يوصل كلام (كوركة)إلى(دلباك)سحبت المسدس،ترددت كثيراً قبل أن تتمكن من فتح النافذة،قذفت المسدس ورفعت الزجاج على عجل،تقدم الثور وراح يداعب كتلة الحديد الساقطة،فشل(كوركة)سحب المسدس بعدما لاحت فرصتان قبل أن ينتبه الثور لحركة يده من أسفل السيارة..
**********
لحظة أنقرض المساء،هدرت مكبرات الصوت..
ـ يا أهالي المدينة،يا أهالي المدينة..حيّ على الصلاة..
لا أحد يريد ترك الدراما،ثور فلت من سكين قصّاب المدينة(شهاب أبو كرش)ووجد نفسه في قفص الناس،زواج أعجوبة بين(كوركة و دلباك)بعد سنوات من الحب،مع بداية الليل بدأت الجموع تتقهقر تاركين سيارة العرس واقفة و العريس يتمدد أسفلها،وحده(رشيد)ورهط شباب يحاولون إنقاذ الموقف..
**********
في اليوم التالي،تحركت مركبات الشرطة بعدما شاع خبر تواجد الثور في مكان ما فوق الجبل،من جديد بدأت أفواج الناس تنطلق باتجاه سلسلة الجبال الممتدة شرق المدينة،شكلت الجموع قوساً بينما تراصت في المقدمة المركبات المسلحة،كان الثور يتمدد ـ مثل أسد بابل ـ على قمة تل،بدأت البنادق تصوب وتطلق الرصاص،بعد نصف ساعة نفد مخزون العتاد،ما أن تحرك الثور ووقف ليستطلع ماذا يجري من حوله،هدرت الثغور تعبيراً عن الفرح،أندفع(رشيد)الذي أكد أنه أنقذ زميله(كوركة)في الليل بعدما أكتشف نفاد البنزين،صار الآن فوق تلّه مقابلة،لوّح بقميصه فتعالت الأصوات :
ـ رشيد..رشيد..
تحرك الثور وأندفع هابطاً باتجاهه،ساد صمت مهيب،توقع الناس أمراً بعدما أعدمت كل فرصة للانفلات من قرون الثور،لكنه غير رأيه لحظة هبط وصار وسط المنحدر بين التلين،أندفع نحو الجموع،تحركت المركبات وانطلقت باتجاه المدينة،علا هدير وراحت الأقدام تنهب الأرض أمام الثور الذي أندفع هائجاً،بعد عشر دقائق كانت الجموع تقف لاهثة فوق الوادي،بينما الثور جلس يائساً على الرمل قرب المياه الآسنة،من جديد علا (خرخشات) مكبرات الصوت :
ـ يا عالم اتركوا الحيوان لحاله هذا يوم الجمعة..
كانت الساعة الحادية عشر ونصف لحظة تقدم(شهاب أبو كرش)وهو يحد سكينه،تعالت الأصوات ساخرة..
ـ أبو كرش..أبو كرش..
تقدم من الثور الذي أستسلم وتمدد قبل أن تنزل السكين وتفصل رأسه تعالت آهة موحدة وساد صمت بليغ وسط ذهول الناس..!!
**********
**كان يوم السبت يوماً غير عادياً،وجد مدراء المدارس أنهم في محنة،لم يجلب تلميذ معه حقيبة أو كتاب،لقد تناثر كل شيء في الوادي وعلى الشارع،تم اللجوء إلى بلدية المدينة كونها قامت بتطهير الشارع من فوضى الأشياء ولم تجد عندهم كتاباً واحداً..
**عاد العروسان من شهر العسل بعد مرور ستة أيام،تبين أن(كوركة)باع سيارته نزولاً عند رغبة(دلباك)وقضيا وقتاً ممتعاً في العاصمة بغداد..
**تم إدخال الشرطة إلى معسكر ضبط وتعليمهم فن الرماية كعقوبة على إخفاقهم الجماعي لقتل الثور..
**أكتشف(رشيد)عن طريق المتابعة والتحري كتب ودفاتر التلاميذ لدى القصّابين والعطّارين تم تجميعها وتحويلها إلى أكياس ورقية..!!
**********
 Posted by Picasa

ليست هناك تعليقات: