أحمد السعداوي
أفق عراقي للمساهمة في انتاج المعنىيدور جزء كبير من احداث رواية (لعنة ماركيز) لضياء الجبيلي داخل نوافذ الجاتينك، على شبكة الانترنت. ويلاحق الراوي الرئيس في هذه الرواية القصيرة الاحداث المتسارعة في نطاق حبكة بوليسية،
لقصة تجري احداثها في البصرة ما بعد 4/9. وضياء الجبيلي أسم لروائي شاب ربما لم يسمع به احد سابقاً، و(لعنة ماركيز) هي روايته الثانية او الثالثة. وقد اطلعت على اعماله الروائية من خلال الانترنت. الامر نفسه يتكرر مع روائي آخر من مدينة الناصرية هو حسين عبد الخضر، الذي وضع روايته الاولى على شبكة الانترنت ثم مضى. واطلعت مؤخراً على رواية ثانية له بالطريقة نفسها، من خلال الشبكة العنكبوتية.أنظر الى هذين الكاتبين، مع اخرين لم يتسن لي الاطلاع على نتاجاتهم على انهم يمثلون اخر الغيث في موجة كتاب الرواية العراقية.انضج ضياء الجبيلي وحسين عبد الخضر اعمالهما بعيداً عن اية صلة كافية مع الوسط الثقافي المفترض، وتخلصا من خلال الانترنت من مشكلة النشر، ويبدو ان ما يشغلهما، كل على حدة، ودون ان يعرف احدهما بالاخر، هو مواصلة الكتابة في الرواية، والرواية وليس غيرها.تأمل روايات هذين الشابين والطريقة التي يتصرفان بها مع هذا الفن الصعب تمنحني موجهات اولية لوصف أفق الرواية العراقية الجديدة، فهناك، كما يبدو، اندفاعة غير مسبوقة نحو كتابة الرواية في العراق، من قبل اسماء غير معروفة او مكرسة، تعمل على وفق شروط متباينة، لا يجمعها سوى المشترك المترشح من المهيمنات العامة السياسية والثقافية والاجتماعية.كما ان هذه الموجة الجديدة من كتاب الرواية، يشكل الانترنت والمواقع الالكترونية الثقافية جزءاً مهما من مصادرها المعرفية، ومن فضاءات النشر، وتبادل الاراء والخبرات، مستبدلة بهذا الفضاء الافتراضي ما يعاني منه مجتمع المثقفين العراقيين من تقطع في التواصل الثقافي وارتباك وفقدان حيوية.انها موجة جديدة من الروايات تتصدر الثقافة العراقية، ليس بمقدور احد الآن ان يتنبأ بالامكانات التي تختزنها، والمديات التي يمكن ان تصل اليها.
* * *أمام الهيمنة التقليدية للشعر، وسيطرته على المناخ الثقافي العراقي، لم يبد ان الرواية قد احتلت في يوما ما حيزاً اساسياً في المشاغل الثقافية والابداعية، وخلال العقدين الاخيرين على الاقل، قذف لنا مرجل الثقافة والابداع الكثير من الاسماء الشعرية والقصصية الجديدة، لكن ظلت الاسماء الستينية هي المهيمنة في مجال السرد الروائي، وظل نتاج الرواية محدوداً ومتفرقاً.ويبدو ان السبب الاساسي في تراجع الرواية قادم من الهيمنة السياسية، التي ضيقت بخطابها الشمولي والقمعي على منافذ التعبير الابداعي، فتناسل الشعر وازدادت مساحته الافقية، لما يوفره من امكانيات التحليق والاحتجاب الرمزي. وتضايقت مساحة السرد، حتى غدت الكثير من النماذج القصصية قريبة من الشعر، اكثر من قربها من السرد، ودخل التفكر حول الفن والانماط الكتابية، في مخانق ضيقة، كالانشغال بالنص الجامع للاجناس، والنص المفتوح، والقصة الشعرية، والكثير من المقترحات الفنية التي انظر اليها باعتبارها نوعاً من الهروب من عين السلطة، وابتعاداً قسرياً غير مدرك عن اشتراطات السرد الفني، الامر الذي ادى في نهاية المطاف الى نضوب الدوافع المشجعة لكتابة الرواية. وما اسهم في انضاج تجربة الروائي الجديد هو ملاحظته للنتائج التي وصل اليها جدل الاجناس الابداعية الاخرى، كل ضمن تاريخه الفني الخاص، فشهد عقد التسعينيات نهاية ظاهرة التجييل الشعري والفني والقصصي وما الى ذلك، واستجابت الانماط الفنية لمنطق النهايات الذي وسم ضروب الابداع عالمياً في تلك الفترة، لتبدو التجربة الشعرية العراقية ذات الزخم الصاخب في ملاحقة التجديد الشكلي وكأنها تصل الى نهاية هذا اللهاث، وليغدو الشعر وحيداً دون معونة من خطاب تنظيري محايث، او دعاية تجييلية، او ادعاءات محتملة بالتحديث على مستوى الشكل، ذلك التحديث الذي اتخذ دائماً طابعاً جماعياً. وانتهت النماذج الجيدة من الشعر الى كونها شعراً بحتاً، او شعراً حقيقياً للمرة الاولى، شعراً ينضج في عزلة الكتابة، ويتسم بفردية مبدعه، وليغدو ايضاً، في المقاربة الشكلية، نوعاًُ من اعادة النظر بكل التجربة الشكلية للشعر نفسه، وصورة من صور التداخل واختراق التراتب الذي حكم تلاحق الاشكال الشعرية. الامر نفسه ينسحب بالضرورة على القصة والفن التشكيلي وانماط ابداعية اخرى. انتهى فجأة تاريخ الاشكال الادبية، وانهار معه قلق التحديث الفني، باعتباره معيار الابداع الاساسي، وتكشف مع انهياره خواء التجربة الروحية والتأملية للمبدع العراقي.وليكون السؤال: كيف اكتب عملاً جيداً، بديلاً عن السؤال السابق: كيف اكتب عملاً حديثاً.هذا التمييز لا يلغي بالضرورة اشتباك الشاغل التحديثي مع شاغل الكتابة الجيدة، ولكنه يفترض علاقة جديدة بينهما.النتيجة الاخرى هو فك الاشتباك ما بين الشعر والسرد، الذي كان يجري دائماً لصالح الشعر، وتفكيك الشعر داخل السرد، كي يتصل الاخير بجوهر الشعر.. او ما يمكن ان نسميه بالشعرية. فتراجع بذلك الى المرتبة الثانية، ذلك الانشغال بتجويد العبارة، وايصالها الى حدود التكثيف الشعري، والى حدود تحولها الى جملة شعرية بحتة، لصالح الانشغال بالعلاقات الداخلية داخل السرد التي تقود وحداته الكبرى الى نتائج شعرية. والانشغال بالاثر الكلي للعمل الروائي الذي يخلق الاثارة الشعرية، دون ان يحيل اجزاء الرواية ووحداتها الصغرى الى مجرد قصائد مشوهة.وعلى مستوى الشخوص، تراجعت ايضاً الى الخلف، وغدت ثانوية تلك الشخصية الفصامية الهذيانية التي يمر من خلالها الحدث الروائي، وهي الشخصية الاثيرة في السرد الثمانيني على سبيل المثال، لتتصدر الرواية الشخصية الاشكالية، التي تحمل هماً معرفياً او حياتياً مفتوحاً على العالم وغير مرتد الى الذات ومنغلق فيها.ظهرت الشوارع والازقة والساحات والبنايات، ظهرت الاسماء الصريحة للشواخص، وتجسد الزمن ببعده الواقعي. * * *الرواية داخل العراق، وتحت سماء الديكتاتورية لم تحد خلال العقدين الماضيين عن الترسيمة التالية، فهي اولاً فضاء اشتغال تجريبي عال يغامر بحدود الرواية، ويحطم اعراف السرد، سعياً للصورة الكنائية عن الاحتجاج الموجه ضد الاخر الديكتاتوري القابع هناك خارج شبكة السرد المتداخلة والملغزة.وهي ثانياً ـ ان خرجت الى العالم الواقعي واتصلت بهوائه وشمسه ـ فانها تختار تفصيلاً ضيقاً من هذا العالم، يبعدها عن عين السلطة، وتعلي من خلال الانشغال به من اهمية الشكل، وكون لعبة الرواية في نهاية المطاف هي لعبة شكل ليس إلا. وهي ثالثاً مخطوطات تركن بعد انجازها في الادراج المعتمة، محتفظة باحتجاجها الصريح الى الازمان القادمة.ويبدو ان التفكر الروائي قد احتاج الى هدوء الصخب الشعري لكي يشرع بنشاطه، فأبتداءً من منتصف التسعينيات وحتى اخرياتها، هاجر اغلب الشعراء العراقيين، وفرغت الساحة الشعرية شيئاً فشيئاً من اسماء كانت ذات صخب، وضعفت الكتلة الجماعية للشعراء، وقل عددهم، رافق ذلك خفوت في الوتيرة الثقافية وتحلل في تقاليدها، وصل الى ذروته في السنوات القليلة التي سبقت سقوط النظام.بدأ الجو ملائماً لذلك التفكر الهادي للرواية وغيرها من الاجناس الابداعية. ولا يفسر همود الشعر طبعاً كل ظاهرة الحماسة الروائية، ولكنه يضيء بعض الجوانب الجدلية ما بين الاجناس الابداعية.رافق ذلك حماسة فجائية للسلطة تجاه الرواية، فاندفعت المطابع الحكومية في حركة محمومة لأصدار اعمال روائية مثلت نوعاً من الاستعادة للادب التعبوي بوتيرة متصاعدة، ولربما المكسب العرضي لحماسة السلطة للرواية، انها وفرت دافعاً وغطاءً للمؤسسة الثقافية الحكومية لوضع الرواية في مقدمة اولوليات الطباعة والنشر، وهذا ما سهل ظهور بعض الاعمال الروائية الخالية من البعد التعبوي، والمعنية بالفن بالدرجة الاساس. كما ان فضاء المتابعات الصحفية، شهد في هذه الفترة ايضاً نوعاً من اعادة اكتشاف الرواية، من خلال المقالات التي تمر سريعاً على بعض الروايات العراقية الجديدة، او تلك التي تؤخذ من الانترنت ويعاد نشرها في الصحافة المحلية، وتركز اغلبها على نشاط الرواية في العالم العربي ودول العالم الاخرى.وبدأ امر جديد وغير مألوف ان تظهر جملة من الروايات تحمل شروطاً فنية جديدة في اوقات متقاربة، عن دار الشؤون الثقافية في بغداد، كشتاء العائلة لعلي بدر، والهروب الى اليابسة لمحمد الحمراني والطائر والجمجمة لناظم العبيدي ونصف القمر لنوزت شمدين، وأعمال اخرى لعلي لفتة سعيد واخرين، ومجموعة قصصية ملفتة لنزار عبد الستار (رائحة السينما).وهي اعمال خرقت الشروط الفنية التي دارت فيها الروايات العراقية المتفرقة التي ظهرت في العقود السابقة، واثارت انتباه المتابعين، ان هناك رغم متن الثقافة السلطوية هامشاً ثقافياً وابداعياً ما زال حياً ويعد بالجديد. تستفيد من اجل انشاء خطابها، من امكانيات الفنطازيا والاسطورة والقراءة في مراحل من التاريخ العراقي، سابقة او محاذية لنشوء وتشكل السلطة الحاكمة، ومستفيدة ايضاً من امكانات الغوص الذاتي التأملي، غير الهذياني في التجربة، التي عزز الاندفاع اليها مناخ الانغلاق والتكرار والهمود في الزمن العام لحقبة التسعينيات العراقية.وما عزز الاشارة الى موجة الرواية العراقية الجديدة، هو الفوز المتكرر لروائيين عراقيين جدد في دورات مختلفة لعدد من الجوائر العربية في مجال الرواية.ثم ان هذا الانشداد لسحر الرواية بدا وكأنه ظاهرة عربية، شملت بآثارها الحراك الثقافي والابداعي العراقي، فهناك ما لا يحصى من الاشارات الى اندفاعة الكتاب في مصر وسوريا ولبنان خصوصاً من الاجيال الشابة نحو الرواية، وكذلك ظهور اسماء جديدة في سماء الرواية في مناطق لم تعهد الرواية بهذا الشكل كالسعودية ودول الخليج، تتميز اعمالهم بعناية فنية ملفتة، الى الحدود التي دفعت بعض النقاد والمتابعين الى اطلاق تساؤلات من نمط.. هل غدت الرواية ديوان العرب؟ وهل نشهد عصراً ذهبياً للرواية العربية وما شاكل ذلك.الروائي العراقي ورغم انطقة العزلة المتعددة دخل في تمثيلات غزارة الانتاج الروائي العربي، وقارب الشرط الفني لنماذجه الجديدة والمتقدمة، مملوءاً بحماسة مشابهة لتلك الموجودة في بلدان عربية اخرى لتحقيق اضافة نوعية على متن السرد العربي الحديث.والروائيون العراقيون يسعون الان، كل في عزلة كتابته ومشغله الخاص، الى تطويع امكانات الحرية التي اندفعت عليهم بعد سقوط الديكتاتورية لأعادة النظر بشروط الرواية نفسها، وتكييفها لحلم الانجازالشخصي، الذي يروم المساهمة الفاعلة في انتاج المعنى.
لقصة تجري احداثها في البصرة ما بعد 4/9. وضياء الجبيلي أسم لروائي شاب ربما لم يسمع به احد سابقاً، و(لعنة ماركيز) هي روايته الثانية او الثالثة. وقد اطلعت على اعماله الروائية من خلال الانترنت. الامر نفسه يتكرر مع روائي آخر من مدينة الناصرية هو حسين عبد الخضر، الذي وضع روايته الاولى على شبكة الانترنت ثم مضى. واطلعت مؤخراً على رواية ثانية له بالطريقة نفسها، من خلال الشبكة العنكبوتية.أنظر الى هذين الكاتبين، مع اخرين لم يتسن لي الاطلاع على نتاجاتهم على انهم يمثلون اخر الغيث في موجة كتاب الرواية العراقية.انضج ضياء الجبيلي وحسين عبد الخضر اعمالهما بعيداً عن اية صلة كافية مع الوسط الثقافي المفترض، وتخلصا من خلال الانترنت من مشكلة النشر، ويبدو ان ما يشغلهما، كل على حدة، ودون ان يعرف احدهما بالاخر، هو مواصلة الكتابة في الرواية، والرواية وليس غيرها.تأمل روايات هذين الشابين والطريقة التي يتصرفان بها مع هذا الفن الصعب تمنحني موجهات اولية لوصف أفق الرواية العراقية الجديدة، فهناك، كما يبدو، اندفاعة غير مسبوقة نحو كتابة الرواية في العراق، من قبل اسماء غير معروفة او مكرسة، تعمل على وفق شروط متباينة، لا يجمعها سوى المشترك المترشح من المهيمنات العامة السياسية والثقافية والاجتماعية.كما ان هذه الموجة الجديدة من كتاب الرواية، يشكل الانترنت والمواقع الالكترونية الثقافية جزءاً مهما من مصادرها المعرفية، ومن فضاءات النشر، وتبادل الاراء والخبرات، مستبدلة بهذا الفضاء الافتراضي ما يعاني منه مجتمع المثقفين العراقيين من تقطع في التواصل الثقافي وارتباك وفقدان حيوية.انها موجة جديدة من الروايات تتصدر الثقافة العراقية، ليس بمقدور احد الآن ان يتنبأ بالامكانات التي تختزنها، والمديات التي يمكن ان تصل اليها.
* * *أمام الهيمنة التقليدية للشعر، وسيطرته على المناخ الثقافي العراقي، لم يبد ان الرواية قد احتلت في يوما ما حيزاً اساسياً في المشاغل الثقافية والابداعية، وخلال العقدين الاخيرين على الاقل، قذف لنا مرجل الثقافة والابداع الكثير من الاسماء الشعرية والقصصية الجديدة، لكن ظلت الاسماء الستينية هي المهيمنة في مجال السرد الروائي، وظل نتاج الرواية محدوداً ومتفرقاً.ويبدو ان السبب الاساسي في تراجع الرواية قادم من الهيمنة السياسية، التي ضيقت بخطابها الشمولي والقمعي على منافذ التعبير الابداعي، فتناسل الشعر وازدادت مساحته الافقية، لما يوفره من امكانيات التحليق والاحتجاب الرمزي. وتضايقت مساحة السرد، حتى غدت الكثير من النماذج القصصية قريبة من الشعر، اكثر من قربها من السرد، ودخل التفكر حول الفن والانماط الكتابية، في مخانق ضيقة، كالانشغال بالنص الجامع للاجناس، والنص المفتوح، والقصة الشعرية، والكثير من المقترحات الفنية التي انظر اليها باعتبارها نوعاً من الهروب من عين السلطة، وابتعاداً قسرياً غير مدرك عن اشتراطات السرد الفني، الامر الذي ادى في نهاية المطاف الى نضوب الدوافع المشجعة لكتابة الرواية. وما اسهم في انضاج تجربة الروائي الجديد هو ملاحظته للنتائج التي وصل اليها جدل الاجناس الابداعية الاخرى، كل ضمن تاريخه الفني الخاص، فشهد عقد التسعينيات نهاية ظاهرة التجييل الشعري والفني والقصصي وما الى ذلك، واستجابت الانماط الفنية لمنطق النهايات الذي وسم ضروب الابداع عالمياً في تلك الفترة، لتبدو التجربة الشعرية العراقية ذات الزخم الصاخب في ملاحقة التجديد الشكلي وكأنها تصل الى نهاية هذا اللهاث، وليغدو الشعر وحيداً دون معونة من خطاب تنظيري محايث، او دعاية تجييلية، او ادعاءات محتملة بالتحديث على مستوى الشكل، ذلك التحديث الذي اتخذ دائماً طابعاً جماعياً. وانتهت النماذج الجيدة من الشعر الى كونها شعراً بحتاً، او شعراً حقيقياً للمرة الاولى، شعراً ينضج في عزلة الكتابة، ويتسم بفردية مبدعه، وليغدو ايضاً، في المقاربة الشكلية، نوعاًُ من اعادة النظر بكل التجربة الشكلية للشعر نفسه، وصورة من صور التداخل واختراق التراتب الذي حكم تلاحق الاشكال الشعرية. الامر نفسه ينسحب بالضرورة على القصة والفن التشكيلي وانماط ابداعية اخرى. انتهى فجأة تاريخ الاشكال الادبية، وانهار معه قلق التحديث الفني، باعتباره معيار الابداع الاساسي، وتكشف مع انهياره خواء التجربة الروحية والتأملية للمبدع العراقي.وليكون السؤال: كيف اكتب عملاً جيداً، بديلاً عن السؤال السابق: كيف اكتب عملاً حديثاً.هذا التمييز لا يلغي بالضرورة اشتباك الشاغل التحديثي مع شاغل الكتابة الجيدة، ولكنه يفترض علاقة جديدة بينهما.النتيجة الاخرى هو فك الاشتباك ما بين الشعر والسرد، الذي كان يجري دائماً لصالح الشعر، وتفكيك الشعر داخل السرد، كي يتصل الاخير بجوهر الشعر.. او ما يمكن ان نسميه بالشعرية. فتراجع بذلك الى المرتبة الثانية، ذلك الانشغال بتجويد العبارة، وايصالها الى حدود التكثيف الشعري، والى حدود تحولها الى جملة شعرية بحتة، لصالح الانشغال بالعلاقات الداخلية داخل السرد التي تقود وحداته الكبرى الى نتائج شعرية. والانشغال بالاثر الكلي للعمل الروائي الذي يخلق الاثارة الشعرية، دون ان يحيل اجزاء الرواية ووحداتها الصغرى الى مجرد قصائد مشوهة.وعلى مستوى الشخوص، تراجعت ايضاً الى الخلف، وغدت ثانوية تلك الشخصية الفصامية الهذيانية التي يمر من خلالها الحدث الروائي، وهي الشخصية الاثيرة في السرد الثمانيني على سبيل المثال، لتتصدر الرواية الشخصية الاشكالية، التي تحمل هماً معرفياً او حياتياً مفتوحاً على العالم وغير مرتد الى الذات ومنغلق فيها.ظهرت الشوارع والازقة والساحات والبنايات، ظهرت الاسماء الصريحة للشواخص، وتجسد الزمن ببعده الواقعي. * * *الرواية داخل العراق، وتحت سماء الديكتاتورية لم تحد خلال العقدين الماضيين عن الترسيمة التالية، فهي اولاً فضاء اشتغال تجريبي عال يغامر بحدود الرواية، ويحطم اعراف السرد، سعياً للصورة الكنائية عن الاحتجاج الموجه ضد الاخر الديكتاتوري القابع هناك خارج شبكة السرد المتداخلة والملغزة.وهي ثانياً ـ ان خرجت الى العالم الواقعي واتصلت بهوائه وشمسه ـ فانها تختار تفصيلاً ضيقاً من هذا العالم، يبعدها عن عين السلطة، وتعلي من خلال الانشغال به من اهمية الشكل، وكون لعبة الرواية في نهاية المطاف هي لعبة شكل ليس إلا. وهي ثالثاً مخطوطات تركن بعد انجازها في الادراج المعتمة، محتفظة باحتجاجها الصريح الى الازمان القادمة.ويبدو ان التفكر الروائي قد احتاج الى هدوء الصخب الشعري لكي يشرع بنشاطه، فأبتداءً من منتصف التسعينيات وحتى اخرياتها، هاجر اغلب الشعراء العراقيين، وفرغت الساحة الشعرية شيئاً فشيئاً من اسماء كانت ذات صخب، وضعفت الكتلة الجماعية للشعراء، وقل عددهم، رافق ذلك خفوت في الوتيرة الثقافية وتحلل في تقاليدها، وصل الى ذروته في السنوات القليلة التي سبقت سقوط النظام.بدأ الجو ملائماً لذلك التفكر الهادي للرواية وغيرها من الاجناس الابداعية. ولا يفسر همود الشعر طبعاً كل ظاهرة الحماسة الروائية، ولكنه يضيء بعض الجوانب الجدلية ما بين الاجناس الابداعية.رافق ذلك حماسة فجائية للسلطة تجاه الرواية، فاندفعت المطابع الحكومية في حركة محمومة لأصدار اعمال روائية مثلت نوعاً من الاستعادة للادب التعبوي بوتيرة متصاعدة، ولربما المكسب العرضي لحماسة السلطة للرواية، انها وفرت دافعاً وغطاءً للمؤسسة الثقافية الحكومية لوضع الرواية في مقدمة اولوليات الطباعة والنشر، وهذا ما سهل ظهور بعض الاعمال الروائية الخالية من البعد التعبوي، والمعنية بالفن بالدرجة الاساس. كما ان فضاء المتابعات الصحفية، شهد في هذه الفترة ايضاً نوعاً من اعادة اكتشاف الرواية، من خلال المقالات التي تمر سريعاً على بعض الروايات العراقية الجديدة، او تلك التي تؤخذ من الانترنت ويعاد نشرها في الصحافة المحلية، وتركز اغلبها على نشاط الرواية في العالم العربي ودول العالم الاخرى.وبدأ امر جديد وغير مألوف ان تظهر جملة من الروايات تحمل شروطاً فنية جديدة في اوقات متقاربة، عن دار الشؤون الثقافية في بغداد، كشتاء العائلة لعلي بدر، والهروب الى اليابسة لمحمد الحمراني والطائر والجمجمة لناظم العبيدي ونصف القمر لنوزت شمدين، وأعمال اخرى لعلي لفتة سعيد واخرين، ومجموعة قصصية ملفتة لنزار عبد الستار (رائحة السينما).وهي اعمال خرقت الشروط الفنية التي دارت فيها الروايات العراقية المتفرقة التي ظهرت في العقود السابقة، واثارت انتباه المتابعين، ان هناك رغم متن الثقافة السلطوية هامشاً ثقافياً وابداعياً ما زال حياً ويعد بالجديد. تستفيد من اجل انشاء خطابها، من امكانيات الفنطازيا والاسطورة والقراءة في مراحل من التاريخ العراقي، سابقة او محاذية لنشوء وتشكل السلطة الحاكمة، ومستفيدة ايضاً من امكانات الغوص الذاتي التأملي، غير الهذياني في التجربة، التي عزز الاندفاع اليها مناخ الانغلاق والتكرار والهمود في الزمن العام لحقبة التسعينيات العراقية.وما عزز الاشارة الى موجة الرواية العراقية الجديدة، هو الفوز المتكرر لروائيين عراقيين جدد في دورات مختلفة لعدد من الجوائر العربية في مجال الرواية.ثم ان هذا الانشداد لسحر الرواية بدا وكأنه ظاهرة عربية، شملت بآثارها الحراك الثقافي والابداعي العراقي، فهناك ما لا يحصى من الاشارات الى اندفاعة الكتاب في مصر وسوريا ولبنان خصوصاً من الاجيال الشابة نحو الرواية، وكذلك ظهور اسماء جديدة في سماء الرواية في مناطق لم تعهد الرواية بهذا الشكل كالسعودية ودول الخليج، تتميز اعمالهم بعناية فنية ملفتة، الى الحدود التي دفعت بعض النقاد والمتابعين الى اطلاق تساؤلات من نمط.. هل غدت الرواية ديوان العرب؟ وهل نشهد عصراً ذهبياً للرواية العربية وما شاكل ذلك.الروائي العراقي ورغم انطقة العزلة المتعددة دخل في تمثيلات غزارة الانتاج الروائي العربي، وقارب الشرط الفني لنماذجه الجديدة والمتقدمة، مملوءاً بحماسة مشابهة لتلك الموجودة في بلدان عربية اخرى لتحقيق اضافة نوعية على متن السرد العربي الحديث.والروائيون العراقيون يسعون الان، كل في عزلة كتابته ومشغله الخاص، الى تطويع امكانات الحرية التي اندفعت عليهم بعد سقوط الديكتاتورية لأعادة النظر بشروط الرواية نفسها، وتكييفها لحلم الانجازالشخصي، الذي يروم المساهمة الفاعلة في انتاج المعنى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق