٢٦‏/٠٥‏/٢٠٠٦

أسطرة الغزو الثقافي
محمد الدعمي

على الرغم من أني واحد من الذين كتبوا بإنفعالية في موضوع "الغزو الثقافي"، يداً بيد مع عدد كبير من الكتّاب العرب الذين "إنتخوا" للتصدي لهذا "الغزو الخطير"، بيد أن السنين وتراكم الخبرة تكفل للمرء توسيع الآفاق وكشف الغطاء عن المبالغات والتسويقات، المدفوعة سياسياً، التي شابت طرائق تعاملنا مع هذا الموضوع (الذي أخذ يفقد بريقه) درجة تحويله إلى إستذكار ساذج لرواسب عصور الجاهلية حيث كان "الغزو" والغزو المقابل، الإنتقام والثأر، من قيم البداوة التي لم تتمكن النفس العربية من التخلص منها حتى بعد إنتقالها إلى الحواضر وإستعمالها للطائرات والسيارات والكومبيوترات ! إنه محك آخر لمصداقية تأشير ما يعانيه الكثيرون من إزدواج في الشخصية.
لابد أن يكون عنوان "الغزو الثقافي" قد طرأ في عقد الثمانينات من القرن الماضي كنوع من الفذلكة اللفظية ، المبتناة على ملاحظة من أطلقه لوجود تفاعل أو تلاقح بين الثقافات المختلفة لدى الأمم، وهي ثقافات تتراوح بين التفوق والتدني. ولكن، ضمن هذه الحدود، كان الموضوع مقبولاً، لولا أن لفظ "غزو" يستثير في النفس العربية عامة ذكريات تاريخية تتصل بالعصور المظلمة التي أشرنا إليها في أعلاه. اللفظ ينطوي، تلقائياً، على هالة معبأة بالأفكار والألفاظ الأخرى المثيرة للحساسية وللعدائية، وهي ألفاظ من نوع: هجوم، هدم وقتل، سبي النساء، ومصادرة الأموال، المنقولة في هذه الحالة. هذه الهالة من العناوين قد تمت إستثارتها وتأجيج العواطف حولها عبر ترويج فكرة الغزو الثقافي وتسويقها في الدوائر الثقافية والسياسية العربية، عبر أنواع وسائل الإعلام، الأمر الذي أحالها إلى موضوع فكري/سياسي مثير في آن واحد.
إن مجرد الحديث عن هذا العنوان الذي يستحث عصور الخوف من الآخر يمكن أن يقودنا إلى الإنغلاق وربما إلى التحجر، ذلك إن إستثارة "البداوة" في دواخل الإنسان، الذي قد يبدو متحضراً، تؤول به إلى الإنغلاق المفاجيء والمقاوم لكل ماهو جديد أو طاريء أو وارد من خلف الحدود. لذا وظف السياسيون المؤدلجون، الذين يرمون إلى إحتكار الجمهور لفكرهم فقط، "الغزو الثقافي" أداة لتكريس الإنغلاق والتقوقع من أجل توجيه الجمهور إلى فكرهم عبر الحفاظ على سكونية الجمهور ولجم تطلعاته، بينما حاول بعض "فرسان" الثقافة المسيسة تمجيد الموروث، بغض النظر عن إيجابياته وسلبياته، صفقة واحدة، لفرض نوع من الإقامة الجبرية على العقل في دواخله التي قد تكون فيها زوايا مظلمة أو خانقة. بل إن الأخطر من هذه الظواهر، يتمثل في ظاهرة العبث بأفكار الشبيبة والنشء من خلال تقديم صورة مفبركة لوجود "مؤامرة" مبيتة، دقيقة التخطيط، للحط من الثقافة المحلية على طريق خلق "فراغ ثقافي" قادر على إمتصاص الوافد، بغض النظر عن فوائده وسلبياته، عن طريق الإستبدال بثقافة أخرى.
لقد تطور الأمر لدى القاريء والمتابع السياسي في العالم العربي درجة أنه سيق إلى عالم خيالي مصطنع يصور العواصم الغربية وهي مشغولة في تطوير أجهزة خاصة، غاية في السرية، يشرف عليها خبراء من الراسخين في العلم والتآمر، من أجل وضع خطة لمحق الثقافة العربية، بأبعادها القومية والروحية والسياسية. إن الموضوع ليس بهذه الدرجة من السوء: فلا يوجد مخططون ولا خبراء غزو ثقافي همهم الوحيد إلحاق "الهزيمة" بالثقافة العربية (أو الهندية أو اليابانية)، بمحتواها الإسلامي والتراثي الثر. كما لا توجد دوائر متخصصة بهذا الغرض، بكل تأكيد، لأن الحديث عن الغزو الثقافي، في أصله وجوهره، هو حديث عن "التفاعل" أو "التلاقح" الثقافي بين ثقافات العالم التي كانت عبر التاريخ ثقافات متحركة على نحو دورات وذروات، تبرز هنا مرة وهناك في المرة الثانية، وهكذا. وللمرء أن يتأكد حد التيقن إن الذين تكلموا عن الغزو الثقافي، من الكتّاب العرب والمسلمين الجادين، لم يكونوا يريدون التقوقع وإثارة الحساسية المرضية من كل ما هو أجنبي أوغربي حد "الإنكماش" والتكلس. لقد أراد هؤلاء التصدي لموجة ثقافية طارئة، جرفت الغث والسمين مع سيلها، من أجل إتاحة الفرصة لثقافتنا كي تحافظ على الإيجابي والمفيد، وكي تستل من "الآخر" ما يمكن أن يدعمها ويكرسها ويقوي الإعتزاز بها.
لذا فإن "نظرية المؤامرة" المرتكنة إلى المتخيل من أجهزة وخبراء متآمرين على الثقافة القومية والروحية قد تمكنت، على نحو واع أو غير واع، من قيادتنا إلى نوع آخر من المؤامرات، وهي مؤامرة القبول المتعامي بالسكونية اللامجدية من خلال تقديس المحلي، حتى وإن كان سلبياً أو ضارا. وكانت النتائج مدعاة للأسف، إذ بقي العقل العربي الشاب، في أوسع مدياته الأفقية، حبيساً في سجن يعلمه ويلقنه عدداً كبيراً من الممارسات الخاطئة وطرائق التفكير التي لم تعد تصلح لعصر هو في جوهره "عصر حوارات": الشمال /الجنوب، الشرق/الغرب، الأغنياء/الفقراء، من بين تشعبات أخرى لجدل الحوار. وهكذا راح البعض من هؤلاء الشبان يتباهى بإنتخاب السلبي من التراث لممارسته على شاشات الفضائيات، بينما أخذ الإيجابي من تراثنا يتراجع لصالح إجترار الخلل والتماهي به.
لهذ السبب كان فرض الإقامة الجبرية على العقل العربي الشاب من أخطر أنواع المؤامرات (التي صنعناها بأنفسنا) والتي أدت إلى الإمتناع عن التفاعل والعزوف عن كل ما هو مفيد، خاصة إذا ما كان وافداً من الغرب (الذي صار مرادفاً لليهودية والصليبية، للإستحواذ والهيمنة). لذا يقرأ المتابعون اليوم حالات مؤسفة عن إحياء الولاءات المجهرية والطائفية والرجوعية بين العديد من الشباب الذين يتعمدون الظهور على الفضائيات وهم يلاعبون "المسبحة" باصابعهم دون توقف، كناية عن التمسك بالتراث والتصدي للطاريء من الغزاة الثقافيين. إذا كانت هذه هي النتيجة النهائية لعملية إطلاق وتسويق الخوف الهاجسي من الغزو الثقافي، فإنها تكون نهاية سلبية بالنسبة لنا فحسب.
إن الثقافات العالمية تمر بدورات تقدم وتراجع، كما هي عليه الحال مع ذبذبة المد والجزر، وقد أخذت ثقافتنا العربية/الإسلامية دورتها عبر ذروة العصر الوسيط. ولكن هذا لا ينبغي أن يعمينا عن حقيقة أن هذه الثقافة ينبغي أن لاتحفظ وتحنط دون تفاعل مع الثقافات الأخرى، ومن بينها الثقافات التي تحيا عصور الذروة الخاصة بها. بل أن التفاعل الحيوي مع الثقافات الحية والقادرة على التوليد، حتى وإن كانت متموضعة في أوربا أو في الصين، هو من الواجبات التي تضمن لثقافتنا البقاء والإستمرار على طريق الحفاظ على الموروث المفيد والتخلص من الموروث السالب بشكل إستلالي إنتقائي يضمن التواصل: فما قيمة الثقافة القومية إذا كانت ثقافة طللية لا تستحق سوى الحفظ على رفوف المتاحف ؟ إن الثقافة الحيوية لا تخشى "بعبع" الغزو، بل هي ثقافة متفتحة متفاعلة ترتهن بالتطورات والتنوعات القادمة إليها والمغادرة منها.
إن عملية "النفخ" في بالون الغزو الثقافي راحت تتجاوز حدودها نحو فرض التحجر والتصلب القائمين على الخوف الوسواسي من كل ماهو أجنبي xenophobia، الأمر الذي يفرغ ثقافتنا من قدراتها الحية على الأخذ والعطاء عن طريق الإعارة والإستعارة، الإبدال والإستبدال
 Posted by Picasa

ليست هناك تعليقات: