٠٧‏/٠٢‏/٢٠٠٨


روايتان عراقيتان جديدتان تستحقان التأشير
قراءة: محمد الأحمد


· 1.
يتسلط علينا سؤال غالبا ما يكون فاعلا في عقلنا الباطن، ونحن نقرا في رواية عراقية أو عربية، وهو: هل نقرأ رواية بمفهوم الرواية كرواية حقا، أم نص كان يطمح أن يكون رواية، على الرغم من توافر النص على بعض مقومات الرواية الأساسية كالزمن الروائي، والكشف الروائي عبر المنظومة الروائية، وإشكالية الموقف الروائي كشاهد لعصره، فيكون من الصعب جدا علينا كقراء عشاق لفن الرواية تجنيس الرواية كرواية ما دامت تفتقر مساحة زمنها إلى حاضر مقطوع عن الماضي، ولا يستشرف المستقبل، وأيضا وان توفر عدد الصفحات الكثير فهو لا ينبري على متن رواية ما لم تكن الرواية قد امتدت على مساحة زمنية ليست مختزلة بظرف نزير، فالزمن الروائي أول خصيصة فيها، فالرواية المجنسة كرواية؛ يجب أن تحوي أيضا على معلومة غير متوفرة في متون كتب أخرى، تنفرد بها كشفا، أو تستقتل لأجل تمثيلها بالكلمات الحاسمة، والشخصيات الجلية، لكون اشد إسرارها اغواءا أن تنفرد عن غيرها من بقية الفنون بكشف ما، يكون واضحا، ولابد أن يثير جدلا، تحقق فيه وجودها بين بقية الفنون، وليست لكونها حكاية ابتدأت لتنتهي بين صفحات وغلاف، إذ يقول الناقد (tephen Jay Greenbelt) : (إن الكتاب المقتدرين يدركون القوانين التي تجري داخل الثقافة، ويتقنون توظيفها)، فكثيرة هي النصوص التي نقرأها، وقليلة تلك التي نفسرها إلى ما نريد، كقراء عموم، فما أكثر الكلام المكتوب، وما أكثر تدوينات البشر، كما يرمي ميشيل فوكو بقوله: (ما أكثر الكلام ولكن النصوص قليلة).. خاصة تلك التي لا تعلق ببالنا، وتبقى مؤثرة علينا.. كأن الرواية هي الجوهر الفلسفي الذي يحقق خطابه بوجود شخصياته، فكل شيء يمتلك ميزة تميزه عن الأشياء الأخرى، وبفضل ميزاته يتشكل، ليحقق وجوده ولا يوجد شيء مطابق لشيء آخر، وإلا لأصبحا شيئا واحدا، لان الكلام هو خريطة الرواية، والكلام هو امتدادها، وكل البشرية تتكلم، وكل البشرية لها من التجربة إلى أن تفتح النصوص أمامنا بأسطر متواصلة فيها الغث والسمين، وكما في الفلسفة الأشياء والظواهر بدلا من اختزالها إلى ماهيات معدودة أو إلى كائن واحد فريد فكل شيء واقع أو ممكن أو محتمل أو مستحيل تفرش أمامنا بالمعان، وغالبا ما يتوافر بالنص الروائي جذبا يدرك كاتبه قبل قارئه على ما يتوافر من كشف.. اغلب النصوص فيها ما نتلقى بعفوية ما هو أمامنا من قضايا، وخاصة قضايا جيل قد دفع إلى معارك وحروب مفروضة عليه بالنيابة.. لتحقيق مآرب وأطماعا إقليمية، وقد خسرت الحروب وأعطت للجيل والأجيال التالية الهزيمة بكل معانيها، فما بعد حرب وحرب أخرى امتدت سنوات الحصار على التوالي فهدرت من الشباب أغلى سنواته، وخسر ربيع خلاياه في انتظار وحرمان، وحسرة.. إذ صعب بل استحال عليه يوما بعد يوم السفر، والعمل، والحلم، فبقي النص الأدبي يحمل كل عذابات الجيل وغضون وجهه، وتراكمات جراحه. فمنهم من كان يتصدى لما يحدث من استلاب بأداته الروائية الطيعة.
· 2
رواية (خضر والعصر الزيتوني- نصيف فلك الصادرة عن دار الصباح2007م).. رواية كاشفة فاضحة.. تستحق الإشادة لما فيها من مادة نفذت بتقنية عالية.. أجاد النص ما أراد البوح به سراً، وعلانية.. بقيت هذه الرواية تحوي القصة الأكبر، الجلية، الواضحة لأي متلقي، يأخذ منها ما أراد الكاتب، وما قرره تأليفاً، فالخيبة التي يعاني منها المثقف في بلده تلامسه في السراء والضراء، وحتى وان هاجر متحملا المخاطر، إذ بقيّ في محنته كعراقي مستلب، منفي في وعيه، وفي حساسيته، فالكاتب المجيد هو الذي كان يقول قوله الواضح، ولا يؤول القول إلى قول آخر غير ما يقصد.. فيفهمه القاصي، و الداني، القارئ العابر، والناقد المتخصص.. نص خطابه واضح التعبير، تحكمه النظم الدلالية المنبثقة من صميم قضايا الأمة، وتطلعاتها الحقيقية غير التطلعات المستخدمة كخطب سياسية لأجل التخدير، وحسب. أنها رواية العهد العراقي الذي قال باطنا، وكشف قوله بنص واضح، وصريح.. فيه أول القول منتظماً مع ما انتهى به، ولم تشوبه صراحته البليغة، إلا جمالاً فوق جمال.. (سوف نكون محصنين، أي كارثة لا تهزنا وأي موت لا يغضبنا ولا يستفزنا. غداً سنكون من طبيعة أخرى، إذ تركنا وراءنا الطبيعة الأولى للبشر، بل حتى غرائزنا ستكون في تطور هائل ومستمر. الحياة نفسها ستتركنا خارجها فلا تعود شروطها ونواميسها تنطبق علينا. سوف لا نصلح حتى للموت الطبيعي العادي. محصنون، نعيش فوق العادة ونموت فوق العادة- الرواية ص 125).
· 3.
رواية (أرض الليالي- ناظم محمد الصادرة عن دار الشؤون الثقافية – بغداد2007م) واحدة من تلك العلامات التي شهدت على عصر لم يكتب بعد، ولم يؤول بنصوصه وما كان يحدث في تلك المطويات التي سوف تبقى تتحدى النسيان، على الرغم من قصور الأداة بيد منتجه، ولكنها سارت باتجاه الغوص العميق في الذي قد كان فيه محضورا، وممنوعا.. فتلك النصوص الشفيفة التي نقرأها اليوم تتوافر على مفاتيح ذكية لعصر كان فيه الكلام شبه مؤجل، ويحوي في مسيرة أيامه على معلومة تقول ما كان يقال سرا، وتأويلا دفينا يقتصر على الإشارات والإيماءات، و صرنا اليوم على الأقل نؤولها وفق ما نشاء، و نقارنها بما في خزيننا من معرفة تراكمية اكتسبت مما كان يحيط بنا من خوف وحساسية، وربما بما خزنت من أدوات أبستمولوجية، فتكون تلك الصور متصاعدة كفعل مع ما يقرأ في النص، أو مع ما يتفاعل فعله القرائي مع الذي يصادف قراءته في الحياة، كحدث قد حدث في الأمر الواقع، غير ما تطبل به المؤسسة الإعلامية المسؤولة عن كشفه. (لم اعد اقرأ شيئا، توقفت في خاتمة السطر، كانت نقطة وقوفي الحرب، رقدت على ظهر الحوت وغرقت مع الغارقين، جزيرتي هناك بشرة ناعمة ودفء نساء هربت صباحات أعمارهن لصيد عابر، لم اعد اقرأ شيئا جمعت أزمنتي في زمن واحد، اسكبه على وتر يجهش بالغناء فيبعث الليالي من رقادها- الرواية ص46)، (يصف الصراع على السلطة في العراق.. ذاكرتي لا تجدي المؤرخين، أجيال مندثرة، هياكل عظمية لرجال يفكرون- الرواية ص 50)..
· 4.
نحن كقراء عشاق لفن الرواية العظيم.. نجري تأويلاً ما (Interpretation)، لأي نص أدبي.. يكون علينا أن لا ننسى بأنه وليد سياق تأريخي متفاعل مع كل الثقافات المصدرة من هذه المؤسسة الثقافية، أو تلك.. في المعتقدات، أو في توازنات القوى، وما إلى ذلك من لغة توضح المرامي الغامضة، التي تقتضي القراءة فيها، بحرية منفلتة من المحظور، فينطوي التأويل عليه من جملة إبعاد أولهما؛ عنصر التعبير، عما بطنه الكاتب ( أي كاتب).. ضمن أي نسق هيرمينوطيقي (Hermeneutics) يشتمل على التأويل؛ كم هي نادرة النصوص المحملة قصداً واضحاً، يتفق عليه كل من يقرأه.. من الموضوعية، وعمق الرؤية كمثقف حساس لما يجري عليه من أحداث، فيحول ما يهدد كيانه، ووجوده إلى رمز جليّ، ليتفرع رمزه مؤشراً إلى الكلية الموضوعية الواضحة. فالرواية البديعة تأخذ حيث ما يريد كاتبها، وليس حسبما يريد قارئها.. ترسم له حدوداً واضحة الخطوط، لا تسمح له أن يتخطاها… بتمرده، أو ثقافته، تحصره مثلما يفعل الفلاح في حقله، ويفتح الساقية بالاتجاه الذي يريده، ويسقي ما يريد سقيه… بإيقاع سريع تتناسب مع نظام عمل به السارد المتقن لما في ذهنه مما احكم عليه حكماً بالغاً.. فيمكننا القول عن هذه الروايتين من أنها تشكلان تحدياً للقالب الروائي العراقي، المتدرج على نمط جديد لم يعد يثير حماس النقاد العراقيين.. فهي دعوة جادة لنقاد الأمس، من بعد أن تخلوا عن أدائهم كنقاد اليوم..

‏الخميس‏، 07‏ شباط‏، 2008
Posted by Picasa

ليست هناك تعليقات: