١٠‏/٠٩‏/٢٠٠٦

الذاكرة المائية
وأسطرة المكان
د.محمد صابر عبيد
تحظى الذاكرة بأهمية قصوى في المتن الشعري إذ هي تمظهر جدلي نوعي وخاص، وتؤسس الذاكرة لعلاقتها بالزمن أرضية فريدة تتحايل فيها على آليات الترتيب وتقانات السياق وتتمخض عن مستقبل خاص بها .‏
وإذا ما أدركنا بأن الزمن في حقيقته عاطفي، فإن تقلبات الوجدان تقود على فهم جديد للذاكرة الشعرية يعاينها بوصفها بنية منزاحة، يستجيب تشكلها للضغوطات الإجرائية القادمة من فعل الكتابة.‏
إن تنصيص الذاكرة وتحويلها إلى فعل كتابي نصي يتم عبر استخدام فضاء الذاكرة بوصفها جسرا للوصول إلى الحساسية النصية للكلمة، اعتمادا على طاقة التماهي النصي فيها وبفضل زخم مرجعيتها الوجودية التي تمول إشكالية التنصيص باحتمالات المعنى .‏
إن التذكر الاستعادي للشئ المعزز بقصدية حالية –فنية وجمالية- يعني بالضرورة تجسيمه على النحو الذي يمكن فيه معاينته بصريا، وتشكيله علاميا، من خلال إشكالية التحول اللاشعوري من ذاكرة النص إلى تنصيص الذاكرة، واستثمار الأبعاد الزمنية المركبة للذاكرة انطلاقاً من قاعدة الماضي مرورا بالراهن الملتبس واتصالا بالمستقبل‏
ولعل هذه الخاصية المركبة لفاعلية الذاكرة في الزمن أو الزمن في الذاكرة تضعها في أكثر مناطق العقل الإبداعي توترا وخصبا ، لذا فإن الذاكرة المنصصة شعريا هي أداة الشعر (( لأن الخيال نفسه إنما هو تمرين للذاكرة وبالتالي ثمرة من ثمراتها، إذ لا يمكن أن نتخيل شيئا لم يسبق لنا معرفته، فقدرتنا على التخيل هي القدرة على تذكر تجاربنا السابقة وتطبيقها على حالات جديدة ))- حسب ستيفن سبندر – ولاشك في أن التفاعل بين القدرة والتخيل والقدرة على التذكر والاستعادة، تخضع في إنجاز فعالياتها لطبيعة وكيفية المساحة النصية التي ستشغلها المادة المستعادة، وحجم التحويل الذي سيحصل لها جراء الفعل الكتابي وهو يصل أقصى مدياته وأكثرها كثافة وتوترا وتركيزا في الشعر‏
بدر شاكر السياب شاعر ذاكرة بامتياز، فهو يعيش حياته الشعرية المزحومة بألوان التجربة الروحية في منزل الذاكرة، لايغادر أبدا إلا إلى الضفاف والتخوم والحواشي التي تغذي المنزل بالذكريات وتمونه بمزيد من صور الماضي وحالاته، في السبيل إلى مضاعفة الحساسية الذاكراتية وإحلالها بديلا لحساسية الراهن وحلم المستقبل .‏
سعى السياب عبر معظم قصائده الذاكراتية إلى ترهين الذاكرة وتعميدها بألم الراهن وانكساراته وهزائمه وخيباته، وركز عميقا على عاطفية الزمن وحولها إلى آلة شحن الأمكنة بطاقة تزمين وجدانية هائلة قرّبتها كثيرا من الأسطرة، إذ إن المنطلقات المركزية التي تنبثق منها أعمال الذاكرة غالبا ماتكون مكانية، بحيث تكونت لديه ذاكرة شعرية مكانية مزمنّة ومؤسطرة وماثلة تماما في حضرة الشعر .‏
الماء يرتبط جوهريا وجدليا بالمكان-وعلى نحو ما بالزمن أيضاً-، وهو عنصر حيوي وفعّال في ذاكرة السياب يمتد إلى أبعد نقطة عفوية في الجذور الأسطورية والدينية والشعبية والجمالية، وينهل منها قوى شعرية تثري ذاكرته النصية بالطاقة والحيوية والتجربة، فيكتظ نصّه الذاكراتي بلغة وحشية جارحة مخضلة بالماء وموحية به أبداً.‏
إذن الذاكرة الشعرية السيابية ذاكرة مائية في المقام الأول، وحيوية هذه الذاكرة تتأتى من حيوية عنصر الماء في الوجود فهو قرين الحياة وسببها ومبرر استمرارها، وإذا كان شعر كل الشعراء في العالم لابدّ وأن يحفل –على نحو أو آخر-بصور الماء ومراياه وحساسياته، فإن ذاكرة السياب ذاكرة مائية حافلة بصور الماء، ومبتهجة بمراياه، وغارقة في انعكاساته، ومتماهية مع عمق تاريخيته في الذاكرة البشرية وتجلياتها الإبداعية.‏
تكتسب قصيدته ((أنشودة المطر)) الحضور الأوسع والأكثر قوّة في تجلي الذاكرة المائية وتفعيلها شعرياً، إذ هي –ومنذ عتبة عنوانها- تشتغل على تحويل الأنموذج المائي الأثير لدى السياب ((المطر)) الهابط من الأعلى إلى الأسفل، والمقترن عنده بالغسل والتطهير، إلى ((أنشودة)) حاضرة في صداها الإيقاعي وماكثة في الضمير والوجدان واللسان.‏
تحفر ((أنشودة المطر)) في بئر الذاكرة المعلّقة في سماء المخيلة فتتدفق أشكالاً مائية متعددة:‏
في كل قطرة من المطر‏
حمراء أو صفراء من أجنّة الزهر‏
وكل دمعة من الجياع والعراة‏
وكل قطرة تراق من دم العبيد‏
فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد‏
أو حلمة تورّدت على فم الوليد‏
في عالم الغد الفتيّ واهب الحياة‏
مطر‏
مطر‏
مطر‏
سيعشب العراق بالمطر‏
تبدأ بالأنموذج المائي المطري في أصغر وحداته ((قطرة من المطر))، وتستمر كذلك بالأنموذح المائي الدمعي في أصغر وحداته ((كل دمعة/ (صفراء)/))، وتنتهي في سياق عنفي وتوتري تصاعدي بالأنموذج المائي الدموي في أصغر وحداته ((كل قطرة/ من دم/ (حمراء)/))، لتشكل بدلالة مصادرها الممولة ((أجنة الزهر/ الجياع والعراة/ العبيد)) فاتحة لأفق حيوي آخر تتفاعل فيه النماذج المائية ((الماء/الدمع/ الدم)) تفاعلاً أسطورياً، لاستيلاد رمز جديد تبدأ به الحياة بداية جديدة ((ابتسام /في انتظار/ مبسم جديد)) تختصر وتختزل وتكثّف وتحوّل ((الماء/ الدمع/ الدم) إلى ((حليب)) في ((حلمة توردت على فم الوليد))، حيث تنجح الذاكرة المائية في تشكيلها المائي الجدلي والمؤسطر بتموين حلم المستقبل ((عالم الغد الفتيّ)) بالرمز المكتظ بصورة الماء وإيحائه ((واهب الحياة))، الذي مايلبث أن يتقاطر عمودياً بغزارة إيقاعية- صوتية وبصرية لافتة((مطر/مطر/مطر))، منتشراً على مساحة تجربة المكان الحيوية ((العراق)) الذي ((سيعشب)) بالماء المنهمر من بئر الذاكرة المائية بأقصى حلم التدفق ((المطر)).‏
وفي قصيدة ((رؤيا في عام 1956)) حيث تتمظهر عتبة العنوان تمظهراً موازياً ومقابلاً لصورة الذاكرة المائية، فإن الدلالات العميقة للنماذج المائية تترمز على النحو الذي يستجيب لفضاء العنونة ((رؤيا)) وتجلياته:‏
ولفّني الظلام في المساء‏
فامتصت الدماء‏
صحراء نومي تنبت الزهر‏
فإنما الدماء‏
توائم المطر‏
فالدالان الفعليان الموحيان بالماء ((امتصت/ تنبت))، والدال الاسمي الموحي بالماء ((الزهر))/ والدال الاسمي المضاد للماء ((صحراء))، والأنموذج المائي-الدموي-الغزير في شعر السياب ((الدماء))، تتفاعل في المرحلة الأولى من مراحل صيرورة التشكّل الشعري للـ((رؤيا)) في السبيل إلى إنتاج المضمون الريوي القائم على هذه المعادلة المائية:‏
الدماء=(توائم)=المطر‏
وهو ما يبرر انفتاح الذاكرة المائية السيابية على نماذج يتلوّن فيها شكل الماء، المائي/ الماء، والأصفر/ الدمعي، والأحمر/ الدم، كما تمّت الإشارة المباشرة إلى ذلك في قصيدة ((أنشودة المطر)).‏
وغالباً مايكون الماء الأحمر ((الدم)) ذو الحضور الوحشي في ذاكرته المائية إشارة للمخاض العسير الذي يحقق الولادة المنتظرة كما في قصيدة ((سروبوس في بابل))‏
سيولد الضياء‏
من رحم ينزّ بالدماء‏
إذ يتمخض فعل الألم ((ينزّ))-بحساسيته الإيقاعية الموجعة من إشكالية المكان المنغلق على سرّه الداخلي، والمفتوح على مشهد الحياة في حضور تشكيلي واحد ((رحم))-عن شكل الماء الأحمر ((الدماء))، الذي يرتفع إلى أعلى –إلى السماء- ((سيولد الضياء)) في الاتجاه المعاكس والمضاد لهطول المطر.‏
وتظل ذاكرة السياب الشعرية((المائية)) تغذّي التشكلات الشعرية بألوان الماء المتعددة، إلا أن اللون الأصفر الذي صرحت به ((أنشودة المطر)) للدلالة على ((الدمع)) يتمظهر تمظهراً آخر في قصيدة ((حفار القبور))، لينتج إشارة أخرى إلى أنموذج مائي له حضوره الحلمي والمخلّص الكثيف في الكثير من قصائده:‏
ويظل حفار القبور ينأى عن القبر الجديد‏
متعثر الخطوات يحلم باللقاء وبالخمور‏
حيث يتكشف (حلم) حفار القبور المعادل عن صورة ((اللقاء+الماء الأصفر/الخمور)) بوصفه معادلاً نفسياً وشكلياً ووجودياً عن (واقع) نأيه ((عن القبر الجديد)).‏
ففاعلية((الماء الأصفر/ الخمور)) تشتغل في منطقة الحياة المقابلة لمنطقة الموت ((الموت الجديد))، وفي حركة ((حفار القبور))-من صورة الخمود والهدوء في التراب ((القبر)) إلى الاشتعال والانطلاق والتماهي والنسيان في الماء ((الخمور)).‏
وفي قصيدته الإشكالية الجدلية((النهر والموت)) تنهض ذاكرة السياب المائية بعبء الموازنة الأسطورية بين الدال المائي ((النهر))- وهو يفترض نقيضاً وجودياً يمكن أن يتمثل بدال ((الحياة))-على النحو الذي يتمظهر فيه الدال ونقيضه في طرفي معادلة عتبة العنوان.‏
تتعلق الذاكرة المائية في هذه القصيدة في بؤرة حركة الأنا الشاعرة:‏
أودّ لو غرقت فيك،‏
ألقط المحار‏
أشيد منه دار‏
يضيء فيها خضرة المياه والشجر‏
ما تنضج النجوم والقمر‏
وأغتدي فيك مع الجزر‏
إلى البحر‏
وتدفع بآلتها الفعلية والحلمية ((أودّ)) إلى فضاء فعلي متّجه إلى الآخر المحاور ((النهر)) مغمور حتى الموت بالماء ((لو/ غرقت، لتعوّض تحت سطحه –داخل الماء- حياة جديدة بالحياة التي هي قرين ((الموت)) خارج الماء، تأخذ منها منظومة الأفعال حريتها وحيويتها وانطلاقها وحياتها ((ألقط/ أشيد/ يضيء/ تنضح/ أغتدي))، وهي تتفاعل وتتضافر وتمتزج وتتماهى مع دوال الطبيعة المشبعة بصور الماء وتجلياته ((المحار/ دار/خضرة/المياه/ الشجر/ النجوم/ القمر/ الجزر/البحر))، لتحقق للمعادلة الشعرية المنفتحة على طول الحياة وعرضها ((النهر /الموت)) موازنتها المطلوبة من طرف الذاكرة المائية في تشكيلها الشعري الإشكالي والجدلي المؤسطر.‏
إلا أن الذاكرة السيابية المائية واستناداً إلى معطياتها الإشكالية والجدلية والمؤسطرة تحفظ للمتن السيابي خلوده، بفعل حساسية الجدل الأسطوري العميق في الطبقات الداخلية القصوى لهذه الذاكرة، إذ إنها ذاكرة مائية تنضح بأنواع المياه وألوانها وتجلياتها وإيحاءاتها وعلاماتها، لكنها ما تلبث أن ترتد إلى حقيقة جافة مفرغة تماماً من الماء:‏
لم أقرأ الكتب الضخام‏
وشافعي ظمأ وجوع‏
في تمثيل إشكالي سيميائي لتجربة شعرية ثرة توازن موازنة رمزية هائلة في تداخلها وتخارجها، وضوحها وإبهامها، علنها وسرها، صوتها وصداها، بين الماء واليباس، الخصب والجدب، الارتواء والظمأ، الحياة والموت.‏
 Posted by Picasa

ليست هناك تعليقات: