محمد الماغوط (1943-2006م)
بقلم: محمد الأحمد
يشغلُ (الماغوط) أهم الدراسات المهتمة بالشعر الحديث، لأنه اهتم بقضايا عصره؛ شعره كما نسمة هواء باردة تخلل أيامنا العربية القائضة، فقد كتب الشعر من رحم جديد، ولم يستطع احد ما أن يزاحمه على تفرده. الشعر عنده حياته التي لا يستطيع أن يحملها اقلّ مما يجب أن تحتمله الحياة، لغته عذبة تصل كالخط المستقيم إلى هدفها وكأنها رصاصة مصوبة لن تحيد، يعتني كثيرا بموسيقاها، وكأنه من كثرة حبه لسماع الموسيقى يظنوه انه احد دارسيها، او احد العازفين، يتحدث بإسهاب عن (بتهوفن) و(موتزارت) و(جايكوفسكي)، ويعطي أراء متميزة بهم وكأنهم مجاليه في الشعر، والحياة، كما له أراء متميزة في الشعراء الأعلام، فمثلا (يرى محمود درويش غير صادق)، و(نزار قباني بائعاً على باب الله)، و(البياتي موهوماً بالمطاردة رغم أنه لم يدخل مخفراً في حياته)، و(ادونيس يكتب طلاسم)، وأيضا يظن أن أغنية فيروز (كيفك إنت) تساوي كل شعر (البحتري). وحين تقابل (الماغوط) تجده يجلس في المقاهي المعدمة يدخن أرذل أنواع السجائر، ولكنه سوف يحدثك كأستاذ جامعي ملمّ بما درس في الشعر الإنساني قاطبة، على الرغم من انه لم يحمل مؤهلا دراسياً سوى الابتدائية، فانه بشعره تحول إلى ظاهرة بليغة، وعلامة بارزة في الشعر الحديث، شاعر أحب الأيام التي ثقلت على المثقف، وكتبها كما أحبّ الإعجاز اليومي، شاعر الأرصفة المهجورة، والأزقة المتعرجة، والدم والدمع والجراح والتسكع، وحين يسأل عن المقاهي التي في بلدته فانه سوف يسرد بحب عن أشهر ما يميز المقاهي التي يرتادها، حيث لم يبق مقهى في مكان إلا وقد جربه، وعرف فيه ابرز شخصياته المتواضعة، فهو مبدع كبير، تتداخل مفرداته من بساطة اللذين يجلس إليهم، ويتداخل مع همومهم، لأنه صاحب الهم نفسه، حيث شعره يدل عليه بأنه مبدع لدرجة الظاهرة، وصادق حدّ الحدة، يعرف الهجاء فقط، ويعيش مع المتعبين والمهمومين. ويقول بان مرجعيته اللغوية القران، ولا يجيد أية لغة أخرى، غير العربية اليومية، ومرجعيته الذهنية هم الذين يشاكونه في المقهى ويشاركونه شاي المقاهي المحروق، ولا يمكنه الكتابة يوما ما لم يطلع الرصيف، ويشم دخانه، ويتلذذ بالضجيج كأي (بوهيمي) متصعلك. فهو الشاعر الذي يمتد شعره فوق الأزمنة، ويطالها بلمة أصابعه عندما يمسك القلم، ويدون صورا، وليس كمن يكتب؛ انه ينحت بأزميل دقيق، ومفرداته دقيقة، لا يمكن استبدالها إلا بالمفردات التي هو أبدعها، قال عنه (حنا مينة) يوما: (محمد الماغوط يغزل في جنون الشجاعة، الشعر شجاعة، وفي المبضع الأصيل، الجارح، بفقء الدمامل النتنة، المدودّة، ثم في ترف اللفظ، يعطي اللفظ جمالاً فاتكاً، ويعطيه أيضاً راحة حنوناً، يمسح على القلوب الكليمة من الأسى، حاملاً إليها في القنوت رجاء، وفي الإظلام نوراً وفي اليأس أملاً وللبراءة من وجع الفاقة والمرض موعداً منظوراً في الزمن آتياً لا ريب فيه)، وقد حضر (الماغوط) في ضمير القارئ العربي، لان وجد في تجربته الحقيقة التي لم يعد غافل عنها إلا إعلام السلطة، والذي بقي يطبل بعيدا عن ما يشغل الشارع، كون الإعلام يسير وفق ما يرومه منه السائس، وابتعد (الماغوط) عن المجاراة والمحاباة، سواء بشعره، مسرحه، مسلسلاته التلفزيونية، أو حتى أفلامه التي عمل عليها لأجل أن يأكل، ولم يكن يحب أية سلطة، ولم يسعى لأجل أن ينال رضا أي حاكم، أو ملك، رغم شهرته التي ملأت آفاقنا المحلية والعالمية، ومن الجدير بالذكر بان الفنان (دريد لحام) هو من اشترى له مسكنا، من بعد أن طارده الفقر والإملاق، وقبل أن يفوز بجائزة العويس الثقافية، وقد استحقها بجدارة، يذكر انه قال؛ عندما تسلم الجائزة (ما أحلاك أيها الشاعر الشقي تحمل الدولارات بيديك وتدعكها بأصابعك! إنها المكافأة المادية التي أتت متأخرة ولكنها أتت أخيراً). وشعره تقرأه مرة تلو أخرى، وتشعر بأنك تقرأه للمرة الأولى، فهو شاعر قادر دوماً على صدم قارئه، فاستطاع أن يحتل مخيلة من يقرأه، مستوفيا له الاستنتاج بعد الآخر، شاعر محتكم على أسباب جراحه البليغة، محولا إياها إلى عموم البشرية جمعاء، (تجربة سهلة وغير معقدة، وأسراره الجميلة غير مغلقة ولغته بسيطة ولكن ممتنعة طبعاً، لأنها لغته هو، لغته الشخصية النابعة من مزاجه الحاد، ومن جسده وروحه، من إحساسه الدائم بخيبة الضحية في عالم بلا رحمة، وفي حياة بلا عزاء). بقي حتى أيامه الأخيرة قارئا نهما، ويقرا ما يقع تحت يديه، ومحافظا على تألق جملته المتجددة، وكأن شعره كتب لليوم محتج، ورافض، غاضب ورقيق، وحشي وشفاف.. شاعر قادر على مواجهة الشيخوخة. ولد في (حماة) عام 1943، وفي شبابه هو يذكر الطرفة التالية: أدعى أنه (دكتور) فنشرت له مجلة (الآداب) أول نص شعري عنوانه (غادة يافا)، وكان يفتخر بان بلا شهادة جامعية، وانه كان متطوعا في سلك الشرطة، حيث عمل رئيسا لتحرير إحدى الإصدارات التي كانت تصدر أيام ذاك، و(الماغوط) حين يتحدث إلى احد فانه يهمين عليه ويشده بكثافة معلوماته، ويعطي بلا توقف في أسلوب رصين، وبصوت تحسه صاف رغما عن الدخان الذي يحشرجة بسعال يخضه خضاً، حتى تدمع عينيه، نظرته ثاقبة تخترق محدثه، لا تشبه إلا صاحبها، في (حزنه) و (فرحه)، في فجاجته ولطافته، في بدويته وحضريته. بقي (الماغوط) الرجل القادر على إثارة الأسئلة في الشعر أكثر من الأسئلة الموجهة إليه ليجيب عنها، يستشرف بان له تأثيراً في الأجيال التي تلته والأجيال التي تتلو بعضها بعضاً. شاعر مجيد يحول الكلام العابر إلى قصائد راسخة جلدة، متحدية، لا تعطي نفسها إلا لمن يصغي إليها بمهابة قدسية.
أهم مؤلفات محمد الماغوط
· حزن في ضوء القمر- شعر (1959)، غرفة بملايين الجدران- شعر (1960)، العصفور الأحدب- مسرحية 1960، المهرج - مسرحية عام 1998، الفرح ليس مهنتي- شعر (1970)، ضيعة تشرين- مسرحية (1974)، شقائق النعمان- مسرحية، الأرجوحة- رواية 1974، غربة - مسرحية (1976)، كأسك يا وطن- مسرحية (1979)، خارج السرب- مسرحية (1999)، حكايا الليل- مسلسل تلفزيوني، وين الغلط- مسلسل تلفزيوني، وادي المسك - مسلسل تلفزيوني، الحدود- فيلم سينمائي، التقرير- فيلم سينمائي، سأخون وطني- مجموعة مقالات (1987)، سياف الزهور- نصوص (2001).
مختارات
· (مدينتي محجبه، ولكن بالياسمين)، (عندما أكون جائعا، لا اكتب بل أقاتل)، (مثلما يقال أن السياسية هي فن الممكن هكذا هو الشعر أيضاً فن الممكنات عِبْرَ التأويل، الترميز، الإيقاع و المخيلة و مُوحيات أخرى لا نهاية لها)، (الشاعر لا يتلون حسب الفصول، إنه يملك إستراتيجية شعرية حتى و أن مات هكذا على أريكته آخر أخباري مثل أولها)، (إنني مثل رومل أقاتل على عدة جبهات: الشعر/ المسرح/ الصحافة/ الأصدقاء/ الأعداء، خائضاً حتى الركبتين، في مستنقع الفقر و الفقراء) (الأسنان فائض قيمة أو إنتاج يجب أن تزول و قد حقق لي القضاة العرب هذه الأمنية باستجواب واحد) ، (كنت بذيئاً بالسليقة، ثرثاراً بالفطرة، و في عالم تنازعه أوتار شوبان، واكلة لحوم البشر، كلما قضى أحد خصيانه بسبب التعذيب، صار الخبز و السيف، والتغوّط محور الشر في حياتي، قبل أن تدخل هذه العبارة أبواب البيت الأبيض و البنتاغون، تشبث بموتك أيها المغفل !!)
05 نيسان، 2006
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق