٢٩‏/٠٧‏/٢٠٠٦

ضياء الجبيلي


الأدباء والأنترنت وعصور البريد الحجرية !



بعد انقشاع ضباب الدكتاتورية وتوفر الحيز ( غير الكافي ) من حرية التعبير ، ابداعيا واعلاميا ، والتحاقنا البطيء جدا والمتأخر جدا بعجلة التطور التكنولوجي ، وخوضنا في بحر الاتصالات والانترنت ، هل اصبح بمقدور المبدع العراقي الاستغناء عن القلم والورقة والكتابة مباشرة من خلال جهاز الكومبيوتر ، بحيث تسير عملية الكتابة وعملية التنضيد في نفس الوقت ؟ وهل ان كل من امتلك ناصية الابداع صار قادرا على مثل هذه الممارسة ؟ عموما لا بد من الاشارة الى ان عملية ارسال المواد الادبية الى الصحف والمجلات لم يعد مقتصراً على البريد العادي ، وان هذه الطريقة اصبحت قديمة وشبه معدومة وربما لا يستعملها سوى " المبدعين المتعففين " من الذين لا تتوفر لديهم الامكانية في ارتياد مقاهي الانترنت او شراء خط انترنت منزلي . كذلك هو الامر بالنسبة للتنضيد او الطباعة ، فأن قلة من الادباء والكتاب يدبجون مقالاتهم و قصصهم وقصائدهم ، كتابة باليد ، ويرسلونها عبر البريد " السلحفاتي " البطيء ، الذي هو احنّ واعطف عليهم من البريد الالكتروني ، فالبريد العادي لن يطلب من جيب المبدع سوى ثمن الطابع ، ولكنه في ذات الوقت سيبطئ في ايصال المقالة او القصة او القصيدة ، لا سيما وان البريد لدينا هو ابطئ بريد في العالم ، وهذه هي الخسارة ، وفي المقابل فأن البريد الالكتروني ينظر الى جيب " المبدع المتعفف " نظرة توحي بأنه عازم على افلاسه ، لان المسألة ليست ارسال مواد ادبية فقط ، وانما هناك اغراء يتربص من وراء شاشة الكومبيوتر ، ويستفزه ليتصفح ويغوص في اعماق العالم العنكبوتي الذي يكون بين يديه في تلك الاثناء . فضلا عن الوقت الذي سيقضيه في تنضيد المادة التي ينوي ارسالها للنشر ، والذي سوف لن يعبئ به مهما كان طويلا في حال انه كتب مادته باليد ، اذ لن تكلفه العملية سوى قلم وبعض الاوراق .
اذكر هذه الاشياء وقد ابتلعتني الحيرة قبل عدة اشهر فيما اذا كنت سأسدد الاجر السنوي لصندوق البريد خاصتي ، ام لا ، لسببين ، الاول : انني فوجئت ان الاجر السنوي لهذا الصندوق قد ازداد اضعافا عما كان عليه قبل الحرب وبعدها . والسبب الثاني ، هو اعتمادي الكلي على البريد الالكتروني ، وبالتالي فأن حاجتي لصندوق البريد العادي ستكون قليلة جدا ، لكنني في نهاية المطاف قررت ان احتفظ بهذا الصندوق ، لانني ربما سأحتاجه في وقت تجور فيه علينا الصناديق الالكترونية ومقاهي الانتر نت بغلاءها " وقد فعلت !"
على اية حال ، ماذا يفعل المبدع العراقي من اجل اللحاق " بروح العصر " التي لا تريد ان تدنو منه او تكتنف حياته لا من قريب ولا من بعيد ، وهو الذي ما زال يعاني ويفتقر الى ابسط المستلزمات الضرورية واللازمة للاستمرار في عملية رفد الساحة الثقافية والادبية بأبداعاته ؟ كيف يستطيع ان يواكب الحركة الدؤوبة في مجال النشر ، هذه الحركة التي كانت اشبه بالبركان الاعلامي والصحافي الذي انفجر بعد عقود من الظلام والحرمان ومصادرة الرأي والتعبير عنه من خلال الصحافة والادب ؟ كيف يكون قادرا على ذلك ، فيما هو متشبث ـ قسراً ـ بالعصور الحجرية للتواصل البريدي وتوسل حمام الزاجل وارسال مقالات وقصص وقصائد واحلام قد تصل او لا تصل . ولنفترض انها وصلت ، هل يلتفت اليها المحرر الثقافي في صحيفة ما ، ام انها ستأخذ طريقها الى سلة المهملات ، والسبب معروف سلفاً : لانها مرسلة على الطريقة الكلاسية من خلال " قبور البريد " ولا مجال لتنضيدها ، ناهيك عن قدمها بسبب الفترة التي قضتها ، متنقلة من كيس الى آخر ، ومن صندوق الى آخر ، حتى استقرت اخيرا على مكتب المحرر الذي ربما سيبدي امتعاضه منها .
وقد يضحي المبدع بالدنانير القليلة في جيبه والتي سينفقها في ارسال بريده بين يوم واخر ، على امل ان تعوضه الصحيفة التي ستنشر كتاباته ، لكن هل سيقبض حتما ذلك " التعويض " المجزي من الصحيفة ، وهل ان جميع الصحف لدينا تكافئ الكاتب على ما يكتبه لها ؟ قطعا لا ، باستثناء بعض الصحف التي تعرف حجم المتاعب التي يمر بها المبدع العراقي في هذه الظروف المعيشية الصعبة . ومما لا شك فيه ، ان الكثير من لادباء والكتاب ، تعوزهم الاشياء المهمة التي من شأنها ان تجعلهم قادرين على مواصلة العطاء وتقديم ثمارهم بالشكل اللائق والمريح . لا ان يشكل عوزهم هذا هاجسا يشعرهم بالعجز عن التواصل مع المشهد الثقافي العراقي ، قبل ان يسلّموا بأن " روح العصر " هذه نقمة حلت على امكاناتهم المتاحة من قبل ، مع انها في الحقيقة نعمة وفرها لنا العلم الحديث ، لكنها قد تنزع هذه الصفة عندما يشعر المثقف والمبدع العراقي بصعوبة التواصل عبر هذا اللون العجيب من التطور التكنولوجي الكبير . السؤال المطروح : ماذا تفعل وزارة الثقافة الجديدة اذا اكتشفت ان استمرار معاناة المثقفين والادباء العراقيين قد تفضي الى ازمة في جودة المواد او النتاج الثقافي المنشور في صحفنا ومجلاتنا ، بسبب عجز الكثير منهم عن التواصل في نشر نتاجاتهم وابداعاتهم ؟ ام انها غير معنية بتاتا بهذا الامر ، وان على " الادباء المتعففين " ماديا ان يؤسسوا منظمة يطلقون عليها ادباء فقراء بلا حدود ويرجعوا القهقرى الى القحط والحصار ويضحون بقوت اطفالهم من اجل شراء جهاز كومبيوتر ، وخط انترنت ؟!

البصرة
 Posted by Picasa

ليست هناك تعليقات: