أديب أبو نوّارالنزوع نحو الامكنة
د . فاضل عبود التميمي
جامعة ديالى كلية التربية
Fadil altamimi@yahoo.com
لو قدر لناقد ما ان يكتب عن( اديب أبو نوار) مجردا من حدود المكان، وتجلياته، وتحولاته لاكتشف ذلك الناقد المفترض خرافة اديب، وتحنط شخصيته، وقبضه على هيكل عظمي يشير الى اسم محدد في بطاقة شخصية لا تعني احدا.
فاديب في كل نصوصه ينزع نحو المكان، يأخذ من تضاريسه تفاصيل كتابة تشعل هوس المسرات، وتخلطها باحزان مؤطرة بالحب والحنين... هكذا وجدت اديبا: عينين صغيرتين تخترقان كتل الارض، وصراخ الجغرافيا، ومجاهل الكثبان بحثا عن انساق الحياة القابعة في مكان لا يستثير احدا، ولا يشكل ملمحا عند كثيرين، فالحياة التي يمسك بها اديب في تل اجرد، وقنطرة مهدمة، ونخلة بلا راس، وكلب يعلن عن وثوبه في بوابة بستان، هي نفسها التي يعلن عنها في فضاء البساتين: فراديس الله على الارض كما يسميها.
منذ التسعينيات من القرن المنصرم واديب أبو نوار يكتب عن الامكنة تستوقفني لغته الماتحة من مصدر واحد: مخيلة معتقة في الشعر، وتشعرني ابدا ببهاء المكان، وبذاخة حسه الانساني المنظم... يوم حزم حقائبه وقرر الكتابة عن امكنة العراق الغربية، خفت عليه فقد خيل لي ان اديبا سيكتب عن امكنة تبدو بعيدة عن بساتين بهرز، وافياء بعقوبة، وانحناءات نهر ديالى، وخريسان، لكني اكتشفت مقدار خطئي وانا اقرأ كتاباته عن نواعير هيت، ووهدان حديثة، ومساءات كبيسة، ومضافات الرمادي، فاديب لا يدخل مكانا حتى يتشربه، ويجوس منبهاته بحسه الشعري الملتقط للغائب، والمخفي، والشارد، والمعلِن عن غيره، والماثل لكل قراءة منفتحة على صفاء اللحظة، وعنوان الانسان.
رافقت اديبا في رحلات عمل صحفي الى امكنة مختلفة لا يجمعها جامع، في كل رحلة كنت اكتشف في هذا الرجل هوسا مضافا ينتجه المكان، وفي كل رحلة كان يثير في نفسي نزعات انسانية لا تمجد سوى المكان المنفتح على بوابات الزمان المؤطر بالدلالات المثقلة بالبوح، والتاويل... فاديب يحشّد مخيلته لصالح المكان، أي مكان يثير نزعة توافقية مع الاشياء ... في واحدة من تلك الرحلات رغب ان اشاركه استعادة مكان طفولتي، ان يرى قريتي، وان يكتب عن(بابلان) اشفقت على الرجل وتعجبت من رغبة ستصطدم بمكان ليس فيه سوى قرية خطيّة تتناثر بيوتاتها مثل حبات مسبحة على ظهر خيط... اخفيت اشفاقي، وقلت مع نفسي لعله ينطلق من فكرة مجاملة... قبل ان نلج المكان سالني عن دلالة التسمية، واجبت بما اعرف، فاكتشفت ان اديبا يدخل المكان محصنا بدلالات الالفاظ، وظلال المعاني، واكتنازات معنى المعنى قال: ((ان جِرس الالفاظ ياخذني الى المكان، وما وراء الجِرس شيء بهيج، اتعرف ياصديقي انني اعجزعن الكتابة عن الامكنة التي لا تثيرني اسماؤها))، فايقنت ان الرجل لا ينطلق من فراغ، وانه معني بدلالات تقوده من حيث يدري، ولا يدري الى امكنة تعلن عن نفسها، لتنفتح على تلق رهيف ، فبمقدوره -اذن- ان يكتب عن مقبرة، او قبرة، او قيمرة... فحرف القاف ياخذه الى حيث يُحتفى بالمكان المؤثث بالحياة، وتناغم الحروف، خرجنا من القرية ولم اسأل عن انطباعه، وهل اعجب بالمكان، ولكنني فوجئت بعد ايام وانا اقرا جريدة الزمان ، فقد سبر اديب مكاني الاول، واحاط بتفاصيل كنت احب ان اسمع عنها على الرغم من بساطتها ، وتوزعها بين ما هو اعتيادي، ويومي ... لم يقرأ اديب المكان قراءة مقلوبة، او مغرضة، او اسقاطية، او تحاملية، او.... انما كان قارئا فذا للامكنة يفتش عن المسامات فيها، والتسميات، والهمسات، والصبابات، لكي يشبع في نفسه رغبة تسد فجوة في وعيه المكاني.
هذه المقالة تحية حب الى ابي نوار، وتذكير باهمية ما كتب عن امكنة العراق، ودعوة صريحة لجمع تلك الكتابات في كتاب مستقل.
اديب ابو نوار شاعر وصحافي بعقوبي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق