٢٤/٠١/٢٠٠٨
ناراتولوجية العزف المنفرد[1] في قصص (حسن كريم عاتي)
قراءة: محمد الأحمد
يتفق علماء السرد (Narratology) على أن اغلب قراء القصة القصيرة يشهدون بأن القص الجميل يمكن أن يصل إلى أعلى مراتب الفنون، وخاصة عندما يقبض موضوعها على هم إنساني كبير. فالقاص المجيد يطول بقلمه ما تطوله الفنون الأخرى، تقنية وإخراجا حيث يقود قصته شكلا ومضمونا لما تصل إليه تقنيات التكنولوجيا في السينما الحديثة، ويستطيع ان يحملها موسيقى هائلة، ويوقعها في نفس قارئه، وتظل تلازمه حتى وان انتهت القراءة فالنص الجميل سوف يبقى في الذهن يطارد قارئه، يمسك به لأجل أن يعود إليه مستدرجا اللذة إلى كمّها الأخير.. (فإذا كان الحب يعمي عن المساوئ، فالبغض أيضا يعمي عن المحاسن. وليس يعرف حقائق مقادير المعاني، ومحصول حدود لطائف الأمور، إلا عالم حكيم، ومعتدل الأغلاط عليم، والقوي المنة، الوثيق العقدة، والذي لا يميل مع ما يستمل الجمهور الأعظم، والسواد الأكبر- الجاحظ[2])، فإذ تتشكل كل مرة بمنظور جديد، وتعطي ذاتها كل مرة معاصرة لأحداث قد تنبأ النص بها، فالذهن يقارن اليوم وغداً، ويستشرف دائماً من خلال الإبداع، المهارة، والاستباق.. وقد اثبت المبدع (حسن كريم عاتي) في كتابه الصادر عن دار الشؤون الثقافية (2007م)، الموسوم بـ(عزف منفرد) بان فن القصة يستطيع ان ينافس الفنون الأخرى، شكلا ومضمونا إن توافر على مادة شيقة قد تكامل فيها كل ما يؤشر لصالح الكتابة المبدعة، حيث جاءت القصص (ألاثني عشر) بلغة متينة ارتقت إلى التعدد في المعنى، لتقرأ أكثر من مرة بتمحيص بحثا عن الاكتشاف الممتع لما فيها من جهد أنساني رفيع يبشر بتأشير جليل على خريطة الإبداع العراقي المتمكن، فتبلورت في جملة جماليات مقتدرة أجادها القاص المتمكن من سرد استنبط الأسس التي قامت بعقلانية من خلال نظم واضحة التعبير حكمت نتاجه وتلقيه.. في قص يأخذ القارئ ليركب بحرا عظيم اللجّة متلاطم الأمواج، ما بين موت محدق، وحياة حرّة كريمة..قصة مواجهه ذئب جسور وأنثاه الشرسة.. بتحدّ هائل الوقع أتقن القاص تصويره بموضوعية حاسمة دقيقة التفصيل… فـ(القصة الأولى- ليل الذئاب) بدأت فيها أنثى الذئب بالعواء التواصل لأجل ذكرها المقتول في غارة على قطيع تعودا النهش فيه كل ليلة حدّ الفناء.. ذئبان قويا الشكيمة، هما اللذان شكلا خطرا بليغا على الإنسان، وكلبه، وقطيعه.. بعد أن تعودا على إهانة ملكيته، وهدر كرامته، صار الصراع حتميا لن ينته إلا بالفصل القائم بالسلاح المواجه بكل مشروعيه، وعقلانية.. مصرا فيها الإنسان على احتراف قدره العظيم في الغلبة الدائمة على ظهر هذه البسيطة.. حيث يحفر حفرة دفاع أعدت بعد تفكير ملي.. لذلك الشأن وبقي بداخلها في ليل طويل ماطر، متشبثاً بالبندقية حبل خلاصه الذي لا يريم، إذ يصيب مقتلا في إلتماع العينين المتوقدة بالفتك.. بعد صبر، وخبرة الأربعين الرصينة. فتسر القصة وقائع احتدام أوار معركة إنسان غيور مع ذئب ضروس ذي أنياب قاطعة جعلت قطيع الخراف، والكلب رفيق الإنسان الدائم في السراء والضراء في حالة من الهلع الدائم.. نمّت من خلال الوحدة السردية للكاتب عن معرفة طبائع الذئب.. يعتمد الذئب اتجاه الريح في الصيد، وسرعته في اختطاف فريسته، والعواء المتواصل الذي تطلقه الذئاب عندما تفقد الذكور إناثها، أو العكس. إضافة إلى تصوير الكيفية للذئاب وهي تحفر للدخول إلى الأماكن المستعصية. فالقاص في قصته قد أجاد سرد المعلومة بدقة ثاقبة، مضيفاً عليها الحبكة القصصية المقنعة (وهي من أهم مقومات الإبداع الفني..في كل الأشكال الكتابية على الإطلاق).. تقمصاً مجيداً لحالة الدفاع عن المال والعرض، بدقة جعلتنا نخاف خوف بطلها، وكأننا معه. متسلحون بإصراره، ونسمع بأذنه. متوكئأ على رصاصة أخيرة بقيت له في حجرة (السبطانة)، فكشفت لنا معرفة ما حلّ بالخراف، من رعب عبر تأكيد على اضطراب حركتها داخل الحضيرة تعني بدء هجوم الذئب، وموقع الذئب من خلال اتجاه نباح الكلب إضافة إلى بول الحملان من جراء الخوف، كذلك مدى رعب الخراف من جثة الذئب القتيل، فجعلنا في داخل القصة نترقب لما سيحدث؛ متحسبون مع المؤلف للأنثى (الذئبة) التي بقيت تستميت لأجل جثة ذكرها، من بعدما حول الإنسان ساحة الوغى إلى كائن آخر يتناسب مع الظرف الجديد. كما يقول كونديرا: (فن الإيجاز ضروري، انه يصر على ذهابنا مباشرة إلى قلب الأشياء-[3])، بكيفية واعية نقل (الإنسان) الجثة (الذئب) إلى داخل بؤرة أخرى للقصة موسعا المساحة إلى مكان آمن.. هو الذي اختاره، ليتمكن من نقل الصورة إلى تحد آخر مجازف.. بعدما نفد العتاد إلا من واحدة، أبقاها العقل البشري الذي لا يفتقر للرجاح مع الحيوان، فأنقذته الطلقة الأخيرة في اللحظة الأخيرة. بعد أن حفرت الذئب المستميتة تحت الجدار في النقطة التي انتهى فيه اثر دم جثة الذئب القتيل، فـ(يمكن للحبكة أن تكون جزءً كبيراً، أو صغيراً من الحدث الذي يتكون أيضاً من الفكرة أو الشخصية. بعدها عليه أن يقرر كيف يريد أن تكون ردة فعل القراء من شخوصه، وهم في أوضاعهم- سوزان لوهافر [4])، كذلك عدة أسئلة يوجهها النص الواضح التأويل حتى يستطيع أن يثبت دعامة ذاته الواعية لزمنها برغم اختلاف التفكير، والمناهج، كونه يبقى قادراً على فرض طرق قراءته، وبمسارات حددها مسبقا الكاتب قبل الناقد.. من أعماق نصه المسرود ضمن أعراف الحكاية التي يقول من خلالها خطابه، فالحكاية عمود كتابة القصة، أو سياقها ومقومها الحيوي الموحد من الشوائب الذي يحوي الصيرورة الخالصة لوحدة التعبير، ودونها لا يستوي تجنيس الخطاب، فالقاص المجيد يدرك جيدا؛ كلما غابت الحكاية المحبوكة.. صارت كتابة ساذجة لا ترتقي إلى الفن المقتدر، بدون الحكاية لن يستطع الحاكي اخذ قارئه إلى حيث متعته والحكم القاطع يكون قاسيا على ذلك الغياب في أية تجربة مهما عرض صيت قلمها، أو تأريخه.. بأنه يجرب جناحيه في جنس يفتقر إلى السرد بمعلومة جديدة، تعطي علما، (درجة عاطفة الفرد ترتبط عكسيا بمعرفة الحقائق- برتراند راسل)، ولان الكتابة المتفاعلة مع قارئها لا تتسم بالعشوائية، التناقض، او عدم الاتساق.. تقبل الفهم في كل سطر من سطورها، فالأدب هو تكامل العمل بذهن الأديب قبل تكامله على الورق، وهذه القصة تكاملت إلى حد ما في قياسات الأغلب- أنموذجا يُحتذى به- حكاية مقنعة بموضوعيتها.. ترتبط من حيث تشابه البطولة المحورية (رغم اختلاف التجنيس) بدقة رواية الشهيرة (الناب الأبيض - جاك لندن) التي كان بطلها ذئباً.. فيها سبر غور علم نفس الحيوان، وأيضا بذلك التحدي الملتهب بين الإنسان والسمكة في رواية (الشيخ والبحر- إرنست هيمغواي)، أو بين الإنسان والبطة الملكة في رواية (حين تركنا الجسر- عبد الرحمن منيف)… حيث قال محي الدين ابن عربي: (كل شوق يسكن باللقاء لا يعول عليه)، والنصوص تستقر في أذهاننا بقدر فعلها بنا من شوق، وتفاعل.
الثلاثاء، 08 كانون الثاني، 2008
[1] Narratology علم السرد
[2] البيان والتبيين 1/90
[3] فن الرواية
(1) الاعتراف بالقصة القصيرة –– ترجمة محمد نجيب – الشؤون الثقافية بغداد .
ربيبةُ السيد المسؤول
قصةُ قصيرة
محمد
الأحمد
بيضاءُ, بيضاءٌ كالثلج, بليغةٌ الأنوثة, ضامرةٌ الخصر، هيفاءٌ القدّ، ذاتُ عينين واسعتين، ونجلاوان بحدّة عالية، تشعان بلمعة ذكية كعيني قطة كأنهما تنيران أية ظلمة. يصعد الدم إلى وجهي كلما كانت تقترب مني.. يفور في ذلك الذي أجهله, يضغطني فلا أحتمل, فأقترب منها أيضاً، مقاوماً كل ما يخيفني، فقد أشاعوا يومها بان احد مسئولي الدولة الكبار آنذاك، كانت علاقته بأمها جد وطيدة، وقد عين من بين الطلبة لمتابعتها، وكنت دائما أتحاش الاقتراب منها، ليس لأني ممتلئ من قصص الرعب التي سمعتها، عن ذلك المسئول الذي وصفوه بأخطر الإمراض السايكوباثية، وكنا نعرف بان يغار عليها كما يغار على أمها، وصرنا نهابها أكثر مما نهابه، كنت أرى بان الاقتراب منها بأي شكل من الإشكال يتركب عليه عواقب وخيمة لا يمكن تفاديها، فكنت دائما اهرب منها، أو التقرب منها رغم أن ترتيب اسمها الأبجدي يجعلها دائما بجانبي، كنت أرى فيها أنوثة طاغية، وأحاول عدم مسّ أصابعها كلما اشتركنا في تمرين (المختبر)، تتعمد الدنوّ فوق رأسي، وتسقط زفيرها في رقبتي، لانتفض ارتجافاً، أراها تتعمد أن تلامسني، فأخاف من احتكاك حلمتيها الجريئتين، وغالبا ما استرق النظر إلى فتحة قميصها خافيا شبقا دفينا بين عينين مفتوحتين خجولتين، فأجن.. إذ غالبا ما تسرحان جريا في هضاب مفرقها المرمري الذي تتيه فيه أذكى العيون..
يومها كانت تدرك باني اضطرب كلما اقتربت مني، وتهدر بي عاصفة تهدني هدّا عنيفا، فتختلط في فمي كل مخارج الكلمات التي انطقها، وتتعثر جملي، وكأني في حضرتها لا اعرف أن أقول، فلا يستقر لي تنفسي، وكأني كنت قد وصلت إليها من بعد ركض كثير، ولكني كنت على يقين بأنها تسعد كثيرا بالتمادي بعبثها معي، فتدفعني بجرأة وتهتف بصوت غنوج:
- أنت رجل رديء.
كأني اطرب لنغمتها، وأميل جانباً لدفعتها, وأبتعد في الاتجاه الذي دفعتني أليه, فقدت السيطرة على نفسي فلم أتمالك وكأني عصفور قد أطلقته من قفص، صرت أحس بأن يديها قد اخترقتاني.. كم صرت أشاركها لعبتها، واخفي اشتهائي، حاولت الغوص أكثر في سناء ما يشدني ولأثيرها كأنها تثار أكثر كلما تغاضيت عنها أكثر، وربما باتت على يقين باني قد صرت لها صيدا سهلا لتجارب هي تخوضها مع صديقاتها، اللاتي غالبا ما أراهن يختلسن النظر بحجة أو بأخرى، ليعرفن نتائجاً هنّ قد رجينّها. كنت اعرف بان اغلب قصص الحب لها بداية كهذه، تبدأ بالهزل، وتنتهي بالعشق العنيف، فضحكت وأمتد صمتي طويلاً بينما راحت عيناي تتسابقان على مباهجها الأنثوية.. كأنني في حلم, رفضت كل شيء ونهضت إليها من جديد.. تتقاسمني نوازع شتى، مغشيا أتطوح في رائحتها الذكية، أتنشقها بعمق، واقبض على أنفاس منها، متحديا أن تفلت تلك الحلاوة من رئتي، حاولت أيجاد نفسي قريباً مما يشعه جسدها السني من دفء كأنها تجذبني من كل الليل الطويل وتغرقني في ميدانها.. يتوقف زمني كله, فلم أعد أحتمل وقوفه، أحس بالاختناق.. الزمن كله يعدو سريعاً خارج جسدي, وتكبر الأشياء من حولي وتتقدم بينما زمني يحتضر. أتقدم منها, وصرت أخاف أن تفلت مني إرادتي فأحاول أن أمد أصابعي بعنف بين ساقيها, صرت أتخيل باني أفعل ذلك، لكن بنطلونها (الجينز) يفشل اندلاقي عليها، أحاول أن امضي قدماً؛ اقبلها، أمص رحيقها، الثمُ شفتيها الكرزيتين، ألامس بأناملي شعرها الأسود الطويل، من المنبع إلى المصب، وان أضع انفي في مفرق نهديها، أن أنغرز عميقا فيها، كأني اقبلهما وامصص أصابعها العشرين واحدا واحدا؛ ان أرى الذي لا يرى، وافرك حملتيها القرمزيتين برهافة أصابعي؛ أن أطير كسحاب حولها والتحف بها، أطير حولها كالأثير، وربما تحول ألي عينين قاسيتين وتتبعهما بكف ثقيل حطّ على وجهي بصوت أصفقت أصدائه في أرجاء القاعة الصغيرة الصاخبة, وربما ستوقظ كل العيون ألي، وسكون هدفا للوشاية، قد تجعلني أتحمل خسارة وخيمة لا تحمد عقباها.. كم تمنيت أن أحافظ بما بقي لدي من رباطة جاش، وادع أيامي القادمة تأتي بسلام، محاولا طمس إحساسي بالاستهداف بسبب نقص في الخدمة العسكرية، واستمراري كطالب يمنحي حصانة، الاستمرار، ويضمن تفلتي من الإحساس المتواصل بالاستلاب. أحسست برداءتي, جمعت نفسي وقواي وسرت كسيراً مهيضا أجرّ عربات ذاتي بعناء ومشقة وأحاول الخروج من فكرتها، إلى مكان آخر، من قفص الرغبة المليئة بالمتعارضات.. يلامسني الهواء الخارجي فأحس بانتعاش، فراغها لا تسده الهموم ولا تنسيني إياه. شيء أحسسته صار بعيداً, ولم يبق لي إلا تعازي نفسي ولومها.. دارت عيوني في صمت الليل الخارجي حاولت التقيؤ للتخلص من عبء ثقيل, ففعلت, وأحسست بالضياع.. دوران رأسي لا يتوقف.. بي حاجة لا أعرفها ولابد أن فكرة ما لوضع حدّ لكل هذا الجنون، من بعد أصبح اغلب زملائنا مهتما بأمرنا، ولكني ما زلت أتعمد التجاهل.. تطوف بي الظنون، والمخاوف فتكاد ضحكاتها تتحول إلى سكاكين تحفر أحشائي، صرت افهم بان الاقتراب منها سوف يفقدني كل استقراري، ومن اليسر أن تكون كلمة واحدة من ذلك الرجل بان ترهب جميع من معي، وأكون قد لفظت كما يلفظ البحر زبده على الشاطئ.. أريد أن أمدّ يدا لقلبي الغارق في هكذا يمّ عظيم اللجة، ولا استطع، فكم اشتهيها، وارغب بها، ولكنها صارت تعرف بأنني معها في مفترق طرق. صرنا على حافة هاوية، ولابد أن ينتزع القرار، ولابد أن نسير إلى قدرنا، ولابد أن يحول الهزل بين اثنين إلى قصة حب عنيف.. تجولت وحدي في الشارع، اشعر بها كما لو حامت حولي كطائر أحس بالحرية لتوه. انطلقت على غير هدى, كانت تحط الطيور في الصباح هنا على المكان ذاته.. لكن أين أجد ليلا جميلا في وحشة هكذا ليل؟، كأني أرها تهمسني تعال: وحدي طائر الليل وأحسه طويلاً.. يرتج جسدي ويترنح، تقول لي تعال واقتحم فلابد للقيد أن ينكسر. حاولت ذات يوم أن أزرع شجرة في بستاننا يومها كي لا أنسى الذي حدث هكذا كان يفعل أبي في مدينتنا البعيدة. غربتي تزرعني هنا, و قلت ساخراً: (أنا سأزرع زهرة برية في خصب راحة يدي).. سأحاول أن أجد بذرة لزهرة عدم النسيان.. يقال بان للفشل والحرمان رائحة مقفرة وكريهة، سأحاول ذلك بكل جدية.. يختل توازني قليلاً فأسقط وأنهض سريعاً.. لقد جعل مني الهم أكثر إختلالاً, وأكثر رهافة، فقلت: صديقتي وحبي الأول في هذه المدينة البعيدة.. دعينا نتجول معاً في كل هذه الأمكنة, نتخطى كل هذه الساعات الرتيبة، دعينا نغادر هذه القاعات المليئة بالعيون، والمخاوف، ولنفارق هذا الإعياء, والتوتر، ونتكلم عن خصوصيتنا بموسمها الآمنة، ثم نعود لنكمل درسنا، ونخط بفخر ما نتمناه لمستقبلنا، كم أنت قريبة أيها المرأة التي أريد، وكم بيننا حواجز، وسدود.
لكنها اليوم راحت بعيداً مثل زورق صغير أخذته الأمواج، على الرغم من اسم ربيبها الذي اخذ يطغي بفرض حضوره عبر الفضائيات العالمية والمحلية، وصار نجماً سياسياً بارزا في نشرات الأخبار، فما زال فكري مشغولاً بذلك الولع الجنوني بها، وكنت كلما أراه مبتهجا في القنوات الإخبارية، كأني أراها.. فتزداد الفجوة بيننا بقدر علوّ نجمه، وإنا أتحرق شوقا لملاقاتها أو معرفة إخبارها، وأتحرق ندما على فراقها..
كأني كنت أقول لها:
- احمدُ الله كثيرا بأنني لم أقع بين قبضته يومها.
فتضحك لي وتواصل القول بأرخم صوت:
- وأنه فاز في الانتخابات العامة لمجلس الأعيان، وقد أسندت إليه مناصبا جديدة أخرى..
صديقتي البيضاء كانت لا تتعمد، وأنا لم أقصد إيذائها, وأن تعجلت شيئاً سيحدث، وارغب في تقبيلها...
اللحظة تقول:
- من السهل إن تجد صديقا عابرا، ولكن من الأصعب بان تجد حبيبيا دائما إلى الأبد..
عيناها مازالتا مسمرتان بذهني:
- ألم أقل لك بأنك رجل رديء؟..
تلفت إذ كانت هي لا تريد أن تجعلني أتوهم، وبأنها قد قدمت لتتواصل معي وتنهض إمامي كفرس صهباء متباهية بغرتها الجميلة، ولم تك خيالاً، فأيقنت باني لم أعد وحيداً، بالرغم من غربة كل تلك السنوات الغابرة..
بعقوبة
Thursday, January 24, 2008
في جدل ثقافة اليوم
بقلم محمد الأحمد
قال محي الدين ابن عربي: (كلُّ معرفة لا تتنّوع لا يعوّلْ عليها).
غالباً ما تكون الثقافة في حالة هشة بعد زوال إي نظام شمولي، لان النظام الشمولي قد عمق مفاهيمه ورسخها إلى حدّ بعيد في مساحة ليست بالهينة في أي بلد يفرض فيه، ولكن ذلك الأمر سرعان ما يضمحل ويصبح البلد أكثر ازدهارا في الحرية أولا ومن ثم ببقية المفردات. وذلك الصراع يبقى في حالة ديمومة وتواصل دليلا على إن الأمور سوف تسفر لاستقرار حالة طبيعية مرت بها اغلب مجتمعات كوكبنا الأرضي، والثقافة عبر أية قناة إعلامية كانت مطبوعة دورية كانت أو غير، حكومية كانت أو غير، فإنها تقبل التلاقح الثقافي، وتؤمن بالتعددية الثقافية، تكون أول القنوات الإعلامية نجاحا، وغالبا ما تكون قد استحوذت على اكبر جمهور، وأفضل نخبة، وصارت الأوسع انتشارا، تعتكز اولا على شرط بان يكون محررها مثقفاً، فتكون مطبوعته مهمة ومتنوعة بقدر ما يسمح به، سعة افقه، لكونه منتخباً جيداً لجديد الأفكار، ومتنوراً، يقرأ ما يصله بشفافية وحسّ عالّي، يعرف بأنه كقارئ يريد جديدا، كما يعرف بان قراءه اليوم فيهم من يقرا ما لم يقرأه المحرر، وغالبا ما يدرك المحرر بانه قد انزاحت من جدلية الأفكار اغلب منظومات الثقافة الشمولية، إذ صار بمقدور القارئ البحث عن من يضيف إليه، ولم يعد لديه المتسع من الوقت ليقرأ شيء يهدر به وقته، فالعصر الحديث صار متعدد النوافذ، وصار النوافذ الأخرى منتبهة وحازمة بشان الإمساك جيدا بفرصتها، وكسب ثقة المتلقي، ولم يعد المحرر، اليوم يفترض بان كل ما يكتبه يرضي فيه السواد الأعظم من جمهوره، فيكون دائما المبادر الأول في الجرأة، وفي تحسس القضايا المصيرية. فـ(إعادة ما قاله الآخرون يحتاج تعليماً؛ وتحديه، يحتاج عقولاً - ماري بيتيبون بول)، وغالبا ما تكون الحرية (لا تعني الحصول على ما يرغبه المرء، وإنما تعني عزم المرء على أن يريد من خلال ذاته- سارتر).. ففي كل الأزمان والأماكن، وعلى مدى التاريخ ثمة احتدام واضح بين الثقافي والسياسي، على الرغم من إنهما يجوبان في أفق واحد، والأول يريد أن يقنع بفكرته جمهوره دون إجبار والثاني يفرض فكرته دون أن يهمه جمهوره، وغالبا ما تحتاج الفكرة الجيدة إلى إيصال بشكل جيد، ولا يحتاج المثقف عادة إلى فرضها كما يحتاج السياسي إلى فرضها، لأنه يطلب لها مجالا حيويا لأجل أن تحيا فكرته، فالفكرة تحتاج إلى حرية، يصعب على السياسي تحقيقها. فما قاله رينيه ديكارت (1650-1596) بشكل لا يمكننا تغيره (أنا أفكر إذن أنا موجود)، كان يشمل بان الفكرة نتاج عقل ووليدة وجود، فلا يمكن أن توجد فكرة خالدة ما لم تولد من فكرة مدونة استند عليها العقل وتطورت، حيث أفكار الإنسان وحدها التي صارت المدونة هي التي تتواصل بالعطاء وتنير للإنسانية الكيفية للاستدلال إلى الفكرة الحية، والفكرة وليدة الفكرة، فهذا التراث الإنساني وهذه الكتب التي تحوطنا من كل اتجاه ما هي إلا نتاج عقول وليس عقل واحد، والفكرة الراسخة تدحض الفكرة الهشة، وتحل محلها، تفرض ثقلها على متلقيها وتدخل في مناهج الدراسة لتكون ملكة بشرية تولد منها الأفكار الأخرى أو هي تقوم الأفكار الجديدة، والفكرة الميتة تنسى، وتهمل لأنها مبتعدة عن فعاليتها في الثبات، وهي لا تجد من يؤمن بها، وقد ارتبط التفكير المنطقي بالوجود الإنساني وما يخلفه العقل البشري هو ثباته الراسخ، وأثره العميق، ولم نكن يومها نعرف بان الإنسان يصرع الإنسان من اجل فرض المنهج، وبقي الجدل الثقافي قائماً ما بين المثقف الذي يريد أن ينهض بما هو ثقافي، ويريد له أن يسود خلال منبره، وبين السياسي.. الأول مساحة انتشاره في إقناع جمهوره، والثاني مساحة انتشاره في فرض فكرة بواسطة ما يملك من زمام، وتكون لعبة إثارة أسئلة وكيفية الإجابة عليها، كل منهج بمنهجه، فـ(يمكن للعمل الفني أن يستهلك فقط، أو ينتقد، ويمكننا أن نعجب به أو نرفضه، ويمكننا التمتع بشكله، وتأويل مضمونه، وتبني تأويل معترف به أو نحاول تأويله من جديد- هانزروبيرجوس)، ويكون المتسلط بهمّ واضح يريد ان يستحوذ على جمهوره المثقف، بغرض واضح وفقا لما يعمل به، وهذا الجدل يرتقي بالمشاريع الثقافية إلى ما هو أشبه فشل عام في المرفق الثقافي المطروح، حيث وصلت بنا الأيام إلى أن نكون أو لا نكون بين تلك الاحتدمات، فالمثقف قد وصلت أفكاره إلى أقصى أماكن الأرض، وصار جدله يلاحق عليه من أقاصي الكون، وصار الانترنيت يوصل المعلومة والطرح الثقافي في ساعته، وصار على المثقف ان يجد لنفسه مكانا صحيحا ويحافظ على صور جديدة بمادة جديدة وطروح جديدة اقرب إلى (زحزحة أبستمولوجية اقرب إلى قطيعة ثقافية- رولان بارت)، وتبدلت الأيام إلى أن الفكرة الجيدة لا تحتاج إلى فرض الكيفية للحفاظ عليها، ولكن بمضمونها النبيل سوف تفرض ذاتها، ولها البقاء بأسئلتها المصيرية التي تحتاج إلى كيفية طرحها تفلتاً من التكفير؟ فالدورية الثقافية كأعمدة تمس الصميم بلا مناورة، كون المثقف هو من يحمي المثقف ويدافع معه عن حرية الفكرة.
الأحد، 30 كانون الأول، 2007
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)