في البحث عنها
قصص: حسن حميد
قراءة: محمد الأحمد
لا يفضي كتاب قصص (في البحث عنها[1]) إلى تفرعات الذاكرة المليئة بالحكايات، والذكريات، فحسب؛ بل يفضي أيضاً إلى أحلام يقظة، طرية، تنتهي إلى صدمات واقعية، تجعلها في مصاف القصص (التشيخوفية) الخالدة.. حيث يمسك القاص المقتدر قارئه بعناية لأجل أن يمرر عليه خطابه، يأخذهُ طوافا بسرد مقتدر، متمكن من هويته، فتكون القصص نصوصا شفافة تقول ببلاغة ما حجب من التاريخ، وما يسكت عنه، ففاعلية النص أن يكون شاهداً على عصره، ومخترقا لقلبية مقص الرقيب، فالقصة صرخة عالية تكشف معرفيتها بعصرها، كونها منحوتة بأزميل فنان متمرس، يعرف الإمساك جيدا، بمن يقرأ، في عالم تنوعت فيه الأدوات والقنوات، فيفترش قصصاً بليغة نابضة بحيوية ذكية، تحمل على الغواية، والاستمتاع معاً، وتحمل على الحسّ المرهف المفعم بنكهة على نهايات هادرة، ومقنعة، تحرص على شدّ قارئها في أن يزيد استغراقه، ليعيد القراءة للمرة المتكررة، (فان نقدم الفن باعتباره مضمنا أو شكلا ما هو إلا مسالة اختيار للاصطلاح المناسب، لكن بشرط أن ندرك أن المضمون يشكل، و إن الشكل يملأ، وان الإحساس إحساس مشكل وان الشكل شكل يحس- كروتشة[2])، ولان القصة عالم متكامل في صفحات محدودة، وهذا شرك أمين يوقع الكاتب الفنان به قارئه.. إذ يكتشف القارئ بأنه خارج المكان، وهو بداخل الذاكرة، أو العكس يكون بخارج الذاكرة، وهو بداخل المكان، ينساب الحدث فيها كما الماء في نهر، يرسم خطوته الواثقة على أديم مشحون بالجذب، مشحون بالحركة التي تراقبها الكلمة، بروية لتعطي اللغة ذاتها بسخاء زاخر بالصور الإنسانية المشوقة، فإبطال القصص (الأغلب) كمعدمين يعوضون الخسارة بالحلم، والحلم يتشكل بفرض راسخ على انه حياة حقيقية بديلة عن الخسارة. (اللغة ليست لغة، بل أصوات، إلا إذ عبرت عن معنى. كذلك يعتبر المحتوى بدون الشكل استخلاصا لشيء ليس له وجود ملموس، لأننا لو عبرنا عنه بلغة مختلفة لأصبح شيئا مختلفا- هارولد ازبون[3]). حيث يضعنا القاص (حسن حميد) خارج المكان.. داخل الذاكرة، فالزمن خطوات تسير بلا توقف، تتقدم حثيثا وتتخطى الأمكنة، متحدية للنسيان، والطمر خطوات لها إيقاعها المكتوب، الموثق، وبكل وقعه، بكل ثقله.. حتى وان خسر الإنسان أنشط خلاياه، فإن تلك الخلايا قد تركت بصماتها فوق الأمكنة، التي لن تموت أبداً؛ إذ هي كالنهر الذي يتكون أولا، وتلتفٌّ من حوله المدن، تحاذيه حتى ترتسم خرائط البلدان وتكون تلك البلدان مسيرة أزمنة هائلة الوقع بما أنتجت، وما خلفت من ظلال على الأرض.. لأنها مسيرة حافلة بالتحديات والنكوص، حافلة بالإمتدادت والتقلصات، فالذاكرة بمدوناتها كذلك هي المدن؛ بنموها تبقى علامة الإنسانية التي يقاس عبرها الزمن، وما احتل منها بقايا صور تتحدى الطمر، وتطوف فوق النسيان، وتحجبه، لان الزمن يفترش الأمكنة كلها ويحتلّها حتى تكون شاخصة تحمل علامته، فأغلب قصص المجموعة، تكاد تكون متواصلة، بضياع أبطالها، وبضياع أعمارهم في السجون، بسبب اختلاف الرأي، والايدولوجيا.. حالمون بالموسم الجميل، متواصلون وكأنهم أبطال قصة واحدة، يتخفى بها الكاتب، وكأنما فصول رواية تترى بالقصص، ففي (قصة تجوال).. قصة حادة، برغم رهافة لغة ساحرة، مقتدرة، تطوف بقارئها خيالا كالسحر، ولا تتركه إلا مأخوذا بالفن القصصي الجميل الذي لا يعطي سره من المدخل السطور الأولى، للعمل الفني، بل تلف قارئها بذكاء، وتنكشف له في لحظة حرجة، واقعية (لم ينكشفا على الخلق إلا صباحا، إلا جسداً واحداً طريا منطفئا فوق رصيف محبر بالبهجة الدامعة- ص 17)، تلفُّ الأمكنة جمل شعرية وراء امرأة، و تكون بعمر الأمكنة، لها ثباتها في المخيلة، ولها مكان في الواقع.. كما في قصة (في البحث عنها).. تلك المرأة ذاتها صاحبة الصوت الرخيم، المثيرة، المؤججة لأحلام تدفع بالإلهام إلى منطق الإبداع، وثمة موت يتشح من المساء القاتم الذي يتقاتل مع شلل أمها، وهو الذي يجعلها تقاسي الحياة فتغيب عن ناظريه كحبيب.. كذلك قصة (في البحث عنكَ).. فهي تروي قصة حب بين سجين وزوجه، وصراعهما مع من يغرر بها، الذي تسلمه كل أدلة الإدانة، بعدما يسجل لها شريطا (فيدوي) في ليلة ماجنة، تقحم القصة ذاتها وتترك قارئها يكملها خيالا، تعمل مع القارئ، تشغله، تمسك به ولن تتركه حتى تعطيه ما تريد مجددا، كقصة بليغة تتواصل في (القاووش)، التي يستمر الرد فيها لتكشف قصة سجين أوقعه لسانه عشرين عاما في (القاووش الرطب المعتم، الذي حفظ هيئته، وثقوبه، وعروق حيطانه، وحشراته، وطعامه، ومواعيد مرور الشمس عليه، كما حفظ وجوه ساكنيه، وقصصهم أيضا- ص65)، ويطلق بعد أن مات ألف مرة كمحكوم بالإعدام، ويشمل بالعفو حتى تعود عليه التهمة مرة أخرى (هناك في القاووش عرف أنهم اكتشفوا الأوراق التي خبأها تحت فراشه، تحت البلاطات الصغيرة، أوراقه التي كتب فيها مشاعره، وأفكاره كلها بوضوح شديد، وبالأسماء الصريحة، فقد باح بكل شيء، ووصف كل شيء، ولام أناساً كثيرين، ونعى مصير آخرين.. بعدما ظن انه ميت لا محالة، وقد نسي أن يأخذها معه حين أفرجوا عنه، بعدما أعمى قلبه فرح الخروج- ص76)، ونفس المصير يلقاه (الرجل العجوز).. كذلك قصة (السجان)، التي تستمر في أجواء السجن، وعفونة هواءه، حيث اللغة الجميلة تصل بالحدث إلى ذروته، وتعاوده في قصة تالية.. قد حققت النصوص تواصلها، بلغة مقتدرة على القص، مقتدرة على الإيغال في المخيلة، إلى العمق الفاعل، المؤثر (ولكن القراءة المتملية للنصوص هي التي تساعدنا على ضبط جنسها، أو نوعها، أو نمطها[4])، متن الكتاب المكون من (150 ص من القطع المتوسط)؛ تماسكت فيه الصور السردية برسالتها، وصارت تستحق القراءة، تستحق التمعن، لأكثر من غاية؛ أولاهما كما كان (محمد غنيمي هلال- أستاذ الأدب المقارن)؛ يؤكده (تقتصر القصة الواقعية والطبيعية على الوقوف عند حدود الوقائع الطبيعية وتحاشي الأحداث العجيبة والغريبة، بل أضافت إلى اهتمامها بالطبقات الدنيا والمتوسطة خاصة أخرى وهي كشف جوانب السوء والشر في النفس البشرية، فصورت المجتمعات والنفوس المترفة فريسة للفساد[5])، إذ جهرت هذه المجموعة عشق كاتبها للفن القصصي، وقد عرف علماً بين كتاب عصر يزدهي بالمبدعين، كما عرف متقدماً بلون يستحق الإشادة، وبالغ الاحترام.
الاثنين، 19 شباط، 2007
[1] في البحث عنها.. مجموعة قصص المؤلف (حسن حميد) صادرة عن دار نارة للنشر والتوزيع- (عمان 2006م)
[2] الاستطيقيا (1902م)
[3] Criticism (P.P 54-68).
[4] احمد الحذيري- من النص إلى الجنس الأدبي- الفكر العربي المعاصر العدد 54-55
[5] ص 515 النقد الأدبي الحديث.
قصص: حسن حميد
قراءة: محمد الأحمد
لا يفضي كتاب قصص (في البحث عنها[1]) إلى تفرعات الذاكرة المليئة بالحكايات، والذكريات، فحسب؛ بل يفضي أيضاً إلى أحلام يقظة، طرية، تنتهي إلى صدمات واقعية، تجعلها في مصاف القصص (التشيخوفية) الخالدة.. حيث يمسك القاص المقتدر قارئه بعناية لأجل أن يمرر عليه خطابه، يأخذهُ طوافا بسرد مقتدر، متمكن من هويته، فتكون القصص نصوصا شفافة تقول ببلاغة ما حجب من التاريخ، وما يسكت عنه، ففاعلية النص أن يكون شاهداً على عصره، ومخترقا لقلبية مقص الرقيب، فالقصة صرخة عالية تكشف معرفيتها بعصرها، كونها منحوتة بأزميل فنان متمرس، يعرف الإمساك جيدا، بمن يقرأ، في عالم تنوعت فيه الأدوات والقنوات، فيفترش قصصاً بليغة نابضة بحيوية ذكية، تحمل على الغواية، والاستمتاع معاً، وتحمل على الحسّ المرهف المفعم بنكهة على نهايات هادرة، ومقنعة، تحرص على شدّ قارئها في أن يزيد استغراقه، ليعيد القراءة للمرة المتكررة، (فان نقدم الفن باعتباره مضمنا أو شكلا ما هو إلا مسالة اختيار للاصطلاح المناسب، لكن بشرط أن ندرك أن المضمون يشكل، و إن الشكل يملأ، وان الإحساس إحساس مشكل وان الشكل شكل يحس- كروتشة[2])، ولان القصة عالم متكامل في صفحات محدودة، وهذا شرك أمين يوقع الكاتب الفنان به قارئه.. إذ يكتشف القارئ بأنه خارج المكان، وهو بداخل الذاكرة، أو العكس يكون بخارج الذاكرة، وهو بداخل المكان، ينساب الحدث فيها كما الماء في نهر، يرسم خطوته الواثقة على أديم مشحون بالجذب، مشحون بالحركة التي تراقبها الكلمة، بروية لتعطي اللغة ذاتها بسخاء زاخر بالصور الإنسانية المشوقة، فإبطال القصص (الأغلب) كمعدمين يعوضون الخسارة بالحلم، والحلم يتشكل بفرض راسخ على انه حياة حقيقية بديلة عن الخسارة. (اللغة ليست لغة، بل أصوات، إلا إذ عبرت عن معنى. كذلك يعتبر المحتوى بدون الشكل استخلاصا لشيء ليس له وجود ملموس، لأننا لو عبرنا عنه بلغة مختلفة لأصبح شيئا مختلفا- هارولد ازبون[3]). حيث يضعنا القاص (حسن حميد) خارج المكان.. داخل الذاكرة، فالزمن خطوات تسير بلا توقف، تتقدم حثيثا وتتخطى الأمكنة، متحدية للنسيان، والطمر خطوات لها إيقاعها المكتوب، الموثق، وبكل وقعه، بكل ثقله.. حتى وان خسر الإنسان أنشط خلاياه، فإن تلك الخلايا قد تركت بصماتها فوق الأمكنة، التي لن تموت أبداً؛ إذ هي كالنهر الذي يتكون أولا، وتلتفٌّ من حوله المدن، تحاذيه حتى ترتسم خرائط البلدان وتكون تلك البلدان مسيرة أزمنة هائلة الوقع بما أنتجت، وما خلفت من ظلال على الأرض.. لأنها مسيرة حافلة بالتحديات والنكوص، حافلة بالإمتدادت والتقلصات، فالذاكرة بمدوناتها كذلك هي المدن؛ بنموها تبقى علامة الإنسانية التي يقاس عبرها الزمن، وما احتل منها بقايا صور تتحدى الطمر، وتطوف فوق النسيان، وتحجبه، لان الزمن يفترش الأمكنة كلها ويحتلّها حتى تكون شاخصة تحمل علامته، فأغلب قصص المجموعة، تكاد تكون متواصلة، بضياع أبطالها، وبضياع أعمارهم في السجون، بسبب اختلاف الرأي، والايدولوجيا.. حالمون بالموسم الجميل، متواصلون وكأنهم أبطال قصة واحدة، يتخفى بها الكاتب، وكأنما فصول رواية تترى بالقصص، ففي (قصة تجوال).. قصة حادة، برغم رهافة لغة ساحرة، مقتدرة، تطوف بقارئها خيالا كالسحر، ولا تتركه إلا مأخوذا بالفن القصصي الجميل الذي لا يعطي سره من المدخل السطور الأولى، للعمل الفني، بل تلف قارئها بذكاء، وتنكشف له في لحظة حرجة، واقعية (لم ينكشفا على الخلق إلا صباحا، إلا جسداً واحداً طريا منطفئا فوق رصيف محبر بالبهجة الدامعة- ص 17)، تلفُّ الأمكنة جمل شعرية وراء امرأة، و تكون بعمر الأمكنة، لها ثباتها في المخيلة، ولها مكان في الواقع.. كما في قصة (في البحث عنها).. تلك المرأة ذاتها صاحبة الصوت الرخيم، المثيرة، المؤججة لأحلام تدفع بالإلهام إلى منطق الإبداع، وثمة موت يتشح من المساء القاتم الذي يتقاتل مع شلل أمها، وهو الذي يجعلها تقاسي الحياة فتغيب عن ناظريه كحبيب.. كذلك قصة (في البحث عنكَ).. فهي تروي قصة حب بين سجين وزوجه، وصراعهما مع من يغرر بها، الذي تسلمه كل أدلة الإدانة، بعدما يسجل لها شريطا (فيدوي) في ليلة ماجنة، تقحم القصة ذاتها وتترك قارئها يكملها خيالا، تعمل مع القارئ، تشغله، تمسك به ولن تتركه حتى تعطيه ما تريد مجددا، كقصة بليغة تتواصل في (القاووش)، التي يستمر الرد فيها لتكشف قصة سجين أوقعه لسانه عشرين عاما في (القاووش الرطب المعتم، الذي حفظ هيئته، وثقوبه، وعروق حيطانه، وحشراته، وطعامه، ومواعيد مرور الشمس عليه، كما حفظ وجوه ساكنيه، وقصصهم أيضا- ص65)، ويطلق بعد أن مات ألف مرة كمحكوم بالإعدام، ويشمل بالعفو حتى تعود عليه التهمة مرة أخرى (هناك في القاووش عرف أنهم اكتشفوا الأوراق التي خبأها تحت فراشه، تحت البلاطات الصغيرة، أوراقه التي كتب فيها مشاعره، وأفكاره كلها بوضوح شديد، وبالأسماء الصريحة، فقد باح بكل شيء، ووصف كل شيء، ولام أناساً كثيرين، ونعى مصير آخرين.. بعدما ظن انه ميت لا محالة، وقد نسي أن يأخذها معه حين أفرجوا عنه، بعدما أعمى قلبه فرح الخروج- ص76)، ونفس المصير يلقاه (الرجل العجوز).. كذلك قصة (السجان)، التي تستمر في أجواء السجن، وعفونة هواءه، حيث اللغة الجميلة تصل بالحدث إلى ذروته، وتعاوده في قصة تالية.. قد حققت النصوص تواصلها، بلغة مقتدرة على القص، مقتدرة على الإيغال في المخيلة، إلى العمق الفاعل، المؤثر (ولكن القراءة المتملية للنصوص هي التي تساعدنا على ضبط جنسها، أو نوعها، أو نمطها[4])، متن الكتاب المكون من (150 ص من القطع المتوسط)؛ تماسكت فيه الصور السردية برسالتها، وصارت تستحق القراءة، تستحق التمعن، لأكثر من غاية؛ أولاهما كما كان (محمد غنيمي هلال- أستاذ الأدب المقارن)؛ يؤكده (تقتصر القصة الواقعية والطبيعية على الوقوف عند حدود الوقائع الطبيعية وتحاشي الأحداث العجيبة والغريبة، بل أضافت إلى اهتمامها بالطبقات الدنيا والمتوسطة خاصة أخرى وهي كشف جوانب السوء والشر في النفس البشرية، فصورت المجتمعات والنفوس المترفة فريسة للفساد[5])، إذ جهرت هذه المجموعة عشق كاتبها للفن القصصي، وقد عرف علماً بين كتاب عصر يزدهي بالمبدعين، كما عرف متقدماً بلون يستحق الإشادة، وبالغ الاحترام.
الاثنين، 19 شباط، 2007
[1] في البحث عنها.. مجموعة قصص المؤلف (حسن حميد) صادرة عن دار نارة للنشر والتوزيع- (عمان 2006م)
[2] الاستطيقيا (1902م)
[3] Criticism (P.P 54-68).
[4] احمد الحذيري- من النص إلى الجنس الأدبي- الفكر العربي المعاصر العدد 54-55
[5] ص 515 النقد الأدبي الحديث.